الأربعاء، 29 سبتمبر 2010

الأدب الياباني... عصور من التطور والرقي ريشة التاريخ تكتب الأساطير بذهن يقظ

2010/09/26
... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share
مها محمد
تلقي الأدب الياباني تأثيرات خارجية منذ بدايات ظهوره. وإلي ما قبل منتصف القرن التاسع عشر،حيث كانت الثقافة الصينية مصدراً لهذه التأثيرات. ولكن بعد منتصف القرن التاسع عشر أصبحت تأثيرات الثقافة الغربية الحديثة هي السائدة. في عام 721 م نُظم سجل بالأحداث القديمة (Kojiki)، وفي عام 720 تم تجميع كتاب التاريخ الياباني (Nihon shoki)،وقد كتب الأول بلغة مابين صينيةـ يابانية، فيما تم كتابة الثاني بلغة صينية كلاسيكية، وكلاهما تم تحت رعاية الحكومة من أجل توثيق شرعية الحكم. ومن بين هذه المجموعات من الأساطير وسلالة الأنساب وأساطير الأبطال، والتدوينات التاريخية ظهر عدد من الأغاني ـ كتب بالحروف الصينية لتمثل الكلمات أو المقاطع اليابانية ـ التي تقدم نظرة وافية لطبيعة المقاطع الشعرية العامية اليابانية.
والمجموعة الرئيسية الأولي من الشعر المحلي، التي كتبت بالأحرف الصينية، هي
(Man yoshu) (في نهاية القرن الثامن، المترجمة بعنوان عشرة آلاف ورقة)،والتي تنظم مقاطع شعرية،وبصورة رئيسية القصائد اليابانية المكونة من 31 مقطعاً لفظياُ المسماة(Waka)،وقد تم تأليف الجزء الأكبر منها خلال الفترة ما بين منتصف القرن السابع والقرن الثامن. تتميز القصائد الأولي في المجموعة بالتعبير المباشر عن المشاعر القوية حيث تُظهر القصائد الأخيرة نشوء عادة التنميق في الشعر ورقة التعبير الذي ساد في التقليد اللاحق لشعر البلاط الإمبراطوري.
إن الإنجاز الثوري الذي حدث في منتصف القرن التاسع يتميز بظهور أسلوب التهجي المحلي المسمي كانا لتهجي الحروف اليابانية. وساهم أسلوب التهجي الجديد في تعميق الإدراك بأن الأدب المحلي الياباني يختلف عن مثيله الصيني. وكانت المجموعة الصينية(Kokin wakashu)،(مجموعة من القصائد اليابانية تعود للفترات القديمة والحديثة، كتبت عام 905 )، واحدة من21 مجموعة منتخبات شعرية إمبراطورية للشعر المحلي، والتي تم تجميعها في بداية القرن العاشر.
وقد أدي إدخال أسلوب التهجي(المسمي كانا) أيضاُ، الي ظهور أدب النثر في اللغة العامية،وأول مثال له هو في ظهور القصة الخيالية(Utsubo monogatari) (حكاية الشجرة الجوفاء، التي كتبت في اواخر القرن العاشر) : وقصة (Ise monogatari) (حكاية إسي، كتبت في منتصف القرن العاشر)، وهي مجموعة من الرسوم المرتكزة علي الشعر، وكذلك يوميات توسا(Tosa nikki) (المترجمة بعنوان the tosa diary ، وكتبت في عام 935 ).ومنذ نهاية القرن العاشر، أدي صعود منزلة الأوصياء علي العرش من عائلة (Fujiwara) إلي تشكيل مجموعة الأديبات في بلاط الإمبراطورية. وهؤلاء الأديبات أنتجن نثراً كلاسيكياً عظيماُ، مثل حكاية غنجي(Genji monogatari) (كتبت في بداية القرن الحادي عشر، والمترجمة بعنوان( The Tale of Genji)، وهي قصة خيالية كتبتها موراساكي شيكيبو، وكذلك كتاب (Makura no soshi) (كتبت خلال الفترة 996ـ 1012 والمترجم بعنوان (كتاب وسادة سيي شوناغون) (The Pillow Book of Sei Shonagon)، وهي مجموعة مقالات كتبتها الأديبة (Sei Shonagon).

أدب القرون الوسطي
يتميز التطور الرئيسي في الشعر خلال فترة القرون الوسطي (ما بين منتصف القرن الثاني عشر وحتي القرن السادس عشر) بظهور المقاطع الشعرية المترابطة (renga ) (وهي قيام شخصين أو أكثر بالتعاقب بقراءة الأغاني أو القصائد الشعرية ). الأساليب الشعرية (waka) و(renga ) المنبثقة من داخل التقاليد الشعرية للبلاط الإمبراطوري التي تم تبنيها وصقلها بفضل طبقة المحاربين بالإضافة إلي طبقة حاشية البلاط الإمبراطوري ، ومن بين أفضل أشعار الرنغا (sogi) التي كتبها شخص من عامة الناس. إن التطور الكبير الذي حصل في أدب النثر في عصر القرون الوسطي تم في روايات الحرب. والرواية(حكاية هيكه) (Heike monogatari) (كتبت في حدود عام 1220 ،والمترجمة بعنوان The Tale of the Heike)، تربط أحداث الحرب التي حصلت ما بين عائلتي تايرا وميناموتو والتي كانت السبب في إنهاء الحكم الإمبراطوري. وأدي التغير الاجتماعي الكبير الذي حصل في بداية الفترة إلي ظهور العديد من الأعمال المتأثرة بعمق بالمفاهيم البوذية الخاصة بتقلبات الشؤون الدنيوية(المسماة موجو).وقد وفرت الفكرة الرئيسية للموجو أرضية مميزة لرواية(هيكه) (Heike monogatari) ومجموعة مقالات هوجوكي (كتبت في عام 1212، والمترجمة بعنوان ( الكوخ ذو المساحة ذات العشر أقدام المربعة) للكاتب كامونوتشوميي وكذلك المقالات (Tsurezuregusa) كتبت بحدود عام 1330، والمترجمة بعنوان Essay in Idleness (مقالات في الكسل) للكاتب كينكو.

أدب فترة إيدو
إن تشكيل حكومة مركزية مستقرة في منطقة إيدو (وهي طوكيو حالياً)، بعد بضع مئات السنين من الاضطرابات، ونمو اقتصاد السوق أدي إلي ظهور طبقة من الأغنياء من أبناء المدينة خلال فترة إيدو(1600ـ 1868 ). وأصبحت الأعمال الأدبية سلعاً صالحة للعرض في السوق، مما أدي إلي نهوض صناعة النشر. كما أن مواضيع الغزل الخيالية للمجتمع المعاصر مثل رواية(Koshoku ichidai otoko) (التي كتبت في عام 1682، والمترجمة بعنوان حياة رجل عاشق) للمؤلف (ايهارا سايكاكو) كانت من أضخم النجاحات التجارية،وغالبا ما كانت متضمنة رسوماً توضيحية، و كانت موجهة مباشرة لجمهور غفير من القراء حتي غدت من المواضيع الأدبية الثابتة لفترة إيدو. إن الأشكال الشعرية المكونة من سبعة عشر مقطعاً من الشعر الخفيف التي تعرف بهايكاي (haikai) (عرفت لاحقاً بهايكو)،والتي تم اشتقاق مواضيعها من الطبيعة ومن معيشة الناس العاديين، ارتقت إلي مستوي الشعر الرائع من خلال أعمال الشاعر (ماتسو باشو).

الأدب الحديث
لقد رافق الإصلاح السياسي والاقتصادي الذي حدث في فترة ميجي في عام 1868 ،إدخال واسع للتكنلوجيا والثقافة الغربية،والتي حلت وبشكل واسع محل الثقافة الصينية. ونتيجة لذلك أصبحت القصة نوعاً من الأدب الياباني الجاد والمهذب. ومن التطورات ذات العلاقة التي حدثت هي التخلي التدريجي عن اللغة الأدبية لصالح استخدام اللغة العامية، وقد بلغ هذا الأمر ذروته لأول مرة في رواية(Ukigumo) (انجراف الغيوم)، والتي كتبها خلال الفترة (1887ـ 1889 ) للكاتب (futabatei shimei). وبالرغم من بقاء الشعر القصير المسمي(tanka) (قصيدة تتكون من 31 مقطعاً) والشعر القصير المسمي (haiku) كأشكال شعرية حية.فقد ظهرت وتحت تأثير الشعر الغربي الأعمال الأدبية ذات المقاطع الحرة. وكان أول المؤثرات علي الادب الياباني هو الأسلوب الادبي الرومانسي، الذي قدمها في التسعينات من القرن التاسع عشر الروائي(Mori Ogai). بالإضافة إلي الأدب العاطفي كان هنالك الأدب الواقعي، الذي أدي إلي نشوء أدب روايات الاعتراف (أدب السيـــــــرة الذاتيـــــــــــة).
بالإضافة إلي الكاتب(Ogai)، هناك كتاب رئيسيون برزوا في الجزء الأول من القرن منهم(Natsume Soseki)، الذي أوصل القصة الواقعية اليابانية إلي مرحلة النضوج الكامل، وكذلك هناك كاتب القصة القصيرة (Akutagawa Ryunosuke).والعديد من أعمال الكتاب الذين أتو من بعد أمثال (Nagai Kafu)، ( (TanizakiJun ichiro و(Kawabat Yasunari)من الذين طبعت علي أعمالهم نظرة تشاؤمية للحياة اليابانية قبل تغيرها نتيجة التأثير الغربي. ولقد حاز الكاتب(Kawabata) علي جائزة نوبل للسلام الأدبية عام 1968 ليصبح أول ياباني حصل علي هذه الجائزة.
كان من الكتاب الذين تأثرت أعمالهم بشكل كبير بخسارة اليابان في الحرب العالمية الثانية الكاتب(Dazai Osamu)، و(Ibuse Masuji )،و(Ooka Shohei). وبعد فترة الخمسينيات لم تعد القصة الخيالية اليابانية من السهل تصنيفها بنفس معايير بدايات فترة ما بعد الحرب،ومن أهم كتاب هذه المرحلة كان الكاتب( (Abe Koboو(Mishima Yukio)، و(Endo Shusaku)، و(Oe Kenzaburo)، الحائز علي جائزة نوبل للسلام عام 1994. في العقود الأخيرة من القرن العشرين برز الكتاب الشباب أمثال(Murakami Ryu)،و(( Murakam Haruki و(Yoshimoto Banana)، بأسلوب نظرائهم من الكتاب في الخارج أكثر مما يشابه أسلوب الكتاب اليابانيين الذين ظهروا في بداية الفترة.

الفن الياباني
هناك تنوع واسع من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والبيئية التي كان لها تأثير، عبر قرون ، علي تطور الفن اليابانيوقد وفر اعتدال المناخ وتوافر أربعة فصول مناخية متميزة الكثير من الرموز والعناصر الموسمية كمواد للأعمال الفنية ، مثل الخوخ ، الكرز، الأسفندان والأقحوان ، والتي تظهر كثيرا في الفن الياباني.وكان تأثير الثقافة الصينية والديانة البوذية قوياً بشكل خاص في فترة ما قبل العصر الحديث، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر فإن الأدب والتكنولوجيا الغربية كان لهما تأثيرا جوهريا علي مفاهيم الجمال التقليدي.

فن الرسم
تميز الرسم الياباني بمدي واسع من الأساليب وبأشكال واسعة الأبعاد ، تنوعت من اللوحات الأفقية واللوحات الاسطوانية المعلقة إلي ألبوم أوراق النباتات ، والمراوح اليدوية ، واللوحات الجدارية ، واللوحات علي شكل ستائر قائمة وستائر متحركة. وترواحت مواضيع الرسم الياباني من الصور الجذابة للبلاط الإمبراطوري ومفردات الديانة البوذية إلي المشاهد الروائية الواقعية المألوفة وفي متناول اليد. وحتي القرن التاسع عشر كانت الثقافة الصينية المصدر الأساسي للإبداعات الرسم ما قبل العصر الحديث
الرسم البوذي
مع قدوم الديانة والثقافة البوذية من كل من كوريا والصين في القرن السادس ، بدأ نتاج الرسوم البوذية يظهر بشكل واضح علي التماثيل الدينية وتزيين المعابد. واعتبر عهد هيآن (794-1185) العصر الذهبي للرسم البوذي ، ومع بداية ظهور المذهب البوذي الذي قاد بدوره إلي تطوير رسم المندالة (رمز الكون عند البوذين والهندوس)، ومع انتشار فرع الديانة البوذية الأرض الطاهرة، تطور نوع جديد من الرسم (Raigozu ) ، يصف وصول بودا أميدا وترحيبه بالموتي للدخول في الجنة.
الرسم الأسطواني (Emakimono):
هذا النوع من الرسوم الأسطوانية الطويلة التي تفتح يدويا والمحتوية علي رسوم تزينية ، وعادة تكون بنصوص، ازدهرات إبان عهدي هيآن وكاماكورا(1185-1333)0 وكثيرا ما استعملت لتوضح الأعمال الأدبية، مثل حكاية غنجي، أو لتوضيح تاريخ هيكل بوذي أومعبد، ويتنوع عدد مجموعة لوحات (emakimono ) ما بين قطعة أو قطعتين أسطوانيتين إلي أكثر من 48 قطعة.

الرسم بالحبر
هو أحد أنواع الرسوم الأحادية اللون، وتم تصنيفة علي أنة يستعمل الحبر الأسود (sumi ). وقد عرف لأول مرة عن طريق الصين في القرن الثامن. ولم يشاهد بوضوح في اليابان حتي القرن الرابع عشر، عندما أصبح رائجآ خاصة في أديرة زن العظيمة وفي القرن الخامس عشر بدأ الرسامون الرهبان من طائفة ((زن )) أسلوبآ يابانيآ للرسم بالحبر كتعبير لروح ((زن ))، وأصبح الرسم بالحبر هو الاتجاة السائد للرسم الياباني. وفيما بعد أصبح الرسم بالحبر بالتدريج دنيوياً ثم انفصل عن الطائفة البوذية واستمر في التطور حتي اصبح الوسط المفعم بالحياة خلال عهد إيدو (1600- 1868 ).

الرسم علي الستائر
تطور الأسلوب الفخم لفن الزخرفة في اواخر القرن السادس عشر، للرسوم التي تتم علي الجدران وعلي الستائر المتحركة والقابلة للطي للأبنية المقامة علي الطراز الياباني التقليدي. استخدمت تلك الزخارف لتزيين العديد من القلاع التي بنيت في عهد (AzuchI- Momoyama) الذي امتد خلال الفترة (1568-1600 ) ، وساد طريقة الرسم علي الستائر والجدران مع خلفية مذورة بذرات الذهب أو المغطاة بصفائح رقيقة من الذهب.

الرسم الحديث
بعد الإصلاح الذي حدث في عهد ميجي عام 1868، أثرت التغيرات السياسية والاجتماعية علي طريقة حملة التحديث التي قامت بها الحكومة الجديدة. وكانت طريقة الرسم الغربي قد بدأت بالنشوء بصورة رسمية ، وسافر عدد من الرسامين إلي خارج البلاد لغرض الدراسة تحت رعاية الحكومة. ومع ذلك ، فإن الاندفاع الحماسي الأول نحو الفن الغربي سرعان ما تم التخلي عنة لصالح إعادة تقدير الفن الياباني التقليدي.وهكذا استعاد أسلوب الرسم الياباني (nihonga ) شهرتة في أواخر القرن التاسع عشر، مع أن بعض فناني ال (nihonga ) أضهروا أيضاً التاثير الغربي في طريقة معالجتهم للفراغ والضوء وتخليهم عن الحدود الخارجية في الرسوم متعددة الالوان.
وبالرغم من تبني اساليب جديدة مثل الانطباعية ، والسريالية ، والتجريدية ، قبل الحرب العالمية الثانية فإن عدداً قليلاُ فقط من الفنانين استطاع التغلب علي السمات المشتقة بصورة كبيرة من اسلوب الفن الغربي الدارج في اليابان.ومع ذلك ، في فترة ما بعد الحرب ، برز الرسامون اليابانيون كمساهمين مهمين في الحركة الفنية الدولية.

أوكي يو ـ إيه
وهو نوع آخر من الفن،خصوصاً في متوسطة طباعة القالب الخشبي،والتي ظهرت في بداية فترة إيدو (1600-1868) وأصبح له سوق واسع ومألوف بين أفراد الطبقة المتوسطة. وفي أواخر القرن التاسع عشر، أثرت رسوم - و- اِية بشكل عميق علي رسوم فناني المدرسة الانطباعية الفرنسية فينسنت فان كوخ وكلود مونية.حيث اتجهت مادة موضوع هذا النوع من الفن للتركيز علي مناطق البغاء والمسارح التقليدية اليابانية ( Kabuki )، وتراوحت أشكال هذه الرسوم من الرسوم المطبوعة علي صفحة واحدة إلي الألبومات والكتب المصورة.وقد ازدهر فن أوكي ـيو ـ إيه في كل أنحاء اليابان، و حققت معظم أشكالها المميزة في المطبوعات التي أنتجت في منطقة(إيدو) خلال الفترة منذ نحو1680 إلي الخمسينيات من القرن التاسع عشر.وقد وصلت مواضيع الرسام(Kitagawa Utamaro) أعلي مراحل التقارب باستعمال صيغة ال(okubi - e) أو صور صدر المرأة.والنساء اللاتي صورهن الفنان(Utamaro) في رسوماته عادة ماكن يتميزن بالحسية إلي حد مفرط. وقام الرسام(Katsushika Hokusai) بتطوير أسلوب منفرد بشكل كبير من خلال الجمع بين التأثيرات الصينية والغربية مع عناصر أخذت من أصول تقليدية.وسلسة رسوماته المتعلقة بالطبيعة بعنوان (ستة وثلاثون منظراً لجبل فوجي) بدأت تظهر ابتداءً من عام 1831. وكان أيضاً رساماً كثير الإنتاج بتصاميمه التي استخدمت فيها تقنيات مختلفة لخلق إبعاد مذهلة للصور في مخطوطاته المشهورة المكونة من ثلاثة عشرة جزءاً والمعروفة بأسم (Hokusai manga) (مخطوطات هوكساي، التي نشرت من خلال الفترة 1814 ـ1894 ) وكان المنافس الحقيقي الوحيد للرسام(Hokusai) في مجال الصور الطبيعية هو الرسامAndo) Hiroshige) بسلسلته المعروفة باسم (المحطات الثلاث والخمسين في طريق توكايدو) والتي جلبت له الشهرة والعديد من المقلدين.

فن النحت البوذي
دخل فن النحت البوذي إلي اليابان من الصين وكوريا، وخلال الفترة ما بين القرن الخامس والثامن اتبع فن النحت البوذي بشكل دقيق النماذج القارية الأصلية.ولم يتطور الأسلوب الأكثر محلياً لغاية القرن التاسع. حيث وضعت أغلب التماثيل الأولي التي أقيمت من البرونز أو الخشب المطليين بالذهب.ووفرت تلك النماذج القارية الإطار للأسلوب الفني لأغلب التماثيل المنتجة لمعابد عهد أسكا((Asuka خلال الفترة (593 ـ710 ).ومن الأمثلة المهمة لتماثيل بوذا الأول التمثال البرونزي المطلي بالذهب المؤلف من تمثال لثلاثة أشخاص(يعود لعام 623 ) والتمثال الخشبي (Guze Kannon) في معبد هوريوجي في محافظة نارا.
وبعد بناء العاصمة في مدينة ((Heijokyo والتي تعرف في الوقت الحاضر بمحافظة نارا وسكنها في عام 710 ، وبذلك بدأ عهد نارا الذي استمر خلال الفترة (710 ـ 794)، تم التعهد بعمل الكثير من التماثيل في مختلف المعابد في المدينة الجديدة وحولها.وعلي الرغم من كون البرونز العنصر المهم، أنجز الكثير من الأعمال بواسطة الطين واستخدم تقنية الورنيش الجاف.
وتم الاحتفاظ بأهم أعمال النحت التي تمت في القرن الثامن في منطقة (نارا) ومن ضمن هذه الأعمال التمثال الثلاثي البرونزي المذهب (Yakushi Triad) (وفيه يظهر البوذا يوكشي وهو محاط من الجانبين بأثنين من البوذيين)، وتمثال(روشانا) المنحوت والمطلي بالورنيش والموجود في معبد تودايجي.واستحدث إنشاء معبد تودايجي موجة اخري من المهمات لإنشاء التماثيل والتي سلمت عهدتها لإنشائها في الورش الحكومية. إن أساس المشروع هو إقامة تمثال(روشانا) الضخم البرونزي المذهب والذي أصبح يعرف بأسم (بوذا العظيم لمدينة نارا) وهو تمثال يصل ارتفاعه إلي 16 متراً.
في نهاية القرن الثامن ومع تحول العاصمة من نارا إلي هيآن كيو(والتي تعرف اليوم بكيوتو)، وابتداء من فترة هيآن التي استمرت خلال الفترة (794 ـ1185 )، برز تفضيل الخشب في صناعة النحت وبقيت هكذا حتي العصور الحديثة.وفي البداية فإن أغلب التماثيل تم نحتها من قطعة خشبية كبيرة واحدة،ولكن في القرن الحادي عشر وبسبب ازدياد الطلب علي التماثيل،أصبحت النجارة(قطع خشبية مربوطة مع بعض)هي أكثر الطرق تفضيلاً وأكثر كفاءة.
وشهدت فترة هيآن ظهور تماثيل الرهبان وأصبح النحاتون قوة فنية واقتصادية في مدينتي كيوتو ونارا. ومن تلك الأعمال المهمة في فترة هيآن خلال القرن التاسع،التمثال الخشبي ل(Yakushi) الموجود في معبد(Jingoji) في مدينة كيوتو ومجموعة تماثيل الخشبية التي تعود للقرن التاسع المرتبة بشكل مندالة(رسم يرمز الي الكون) ، الموجودة في معبد(Toji) في مدينة كيوتو.
وأحد أكثر الأعمال تأثيراً في نهاية فترة هيآن تمثال الخشب المذهب ل((أميدا بوذا)) الموجود في معبد (Byodoin) قرب مدينة كيوتو. وفي القرن الثاني عشر قامت مدرسة ((Kei للنحت ،والتي تخرج منها عدد كبير من الفنانين الرئيسيين، منهم ((Unkei و(Kaikei) ، والذي قام بتعريف فن النحت خلال فترة كاماكرا التي استمرت خلال الفترة(1185 ـ 1333 ). وبقي الخشب كمادة والنجارة كتقنية مفضلتين في النحت، ولكن، علي نقيض فترة هيآن التي كانت تميل إلي التماثيل المطلية بالذهب، فإن نحاتي فترة كاماكرا أظهروا اهتماماً بطلاء التماثيل بعد الانتهاء من نحتها. وكمثال علي هذا الاتجاة، تمثال الراهب البوذي (Jizo)، الذي يعود إلي القرن الثالث عشر. بالإضافة إلي ذلك، فقد تم ترصيع عيون التماثيل بالكريستال بتقنية عرفت (العيون الجواهرية)، والتي تطورت في القرن الثاني عشر لتصبح صيغة قاعدية للنحت في عهد كاماكرا الذي اتجه بصورة متزايدة نحو ((الواقعية)). بعد عصر (كاماكرا)) أصبح فن النحت يميل إلي وضع صيغ قياسية ومع قيام النحاتين بإنتاج أعمال محددة كبيرة وبالأساليب المتفق عليها. المصدر
     

الأربعاء، 22 سبتمبر 2010

مفهوم الأمانة في الترجمة

مفهوم "الأمانة" في الترجمة ـ
المصطفى مويقن

"ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليه، حتى يكون فيهما سواء وغاية" الجاحظ، كتاب الحيوان.
ظهرت اللغة مع الإنسان كحاجة للتواصل بين بني البشر. وبتعدد التجمعات البشرية، وتشكل الأقليات تعددت اللغات. فكانت الحاجة إلى التواصل، هذه المرة، موجبة لميلاد الترجمة. والترجمة كممارسة إنسانية عالمية، قديمة قدم اللغة والكتابة. غير الترجمة أخذت شكلها الحديث منذ عصر النهضة، إذ أصبحت ضرورية لقيام أي نوع من التواصل. وهي تمارس تحت أربعة أشكال أساسية:
-الترجمة الكتابية Traduction écrite
-الترجمة الشفهية لنص مكتوب Traduction orale d'un texte écrit
-الترجمة الفورية Interprétation simultanée
-الترجمة اللاحقة Interprétation consécutive
إضافة إلى هذا، هناك أنواع عديدة للترجمة تختلف وظائفها بنسب متفاوتة. لقد أضحت الترجمة ضرورية لجميع مجالات الحياة الاجتماعية (تقنية-علمية-اقتصادية…).
غير أن السؤال الجوهري، الذي شغل المترجمين على مر العصور والذي يطرح اليوم بحدة حول علاقة النص المصدر (الأصل) بالترجمة، هو: إلى اي حد تكون الترجمة وفية وأمينة للنص الأصل؟
لقد طرحت مسألة الأمانة للنص المصدر على مر العصور التاريخية، فقد شكلت مفهوما مفتاحا للمشتغلين بنظرية الترجمة. وتتأرجح الأجوبة بين الاعتناء بالأشكال اللسانية للنص المصدر وبين التكيف الحر مع النص. لقد بقي مفهوم الأمانة ضبابيا: فبالنسبة للبعض تكون الترجمة أمينة للنص عندما تحترم المحتوى العام للنص المصدر، وبالنسبة للبعض الآخر فالأمانة للنص هي الترجمة الحرفية، ترجمة النص كلمة كلمة.
لكن قبل الخوض في مسألة أمانة الترجمة للمصدر يمكننا أن نتساءل عن أي أمانة نتحدث؟
ترى "سيلسكوفيتش D.Seleskovitch" أن المقصود من الترجمة هو تمرير المعنى مع إنتاج نفس الأثر عند المتلقي. وانطلاقا من هذه القاعدة يمكن الحديث عن أمانة للمعنى Fidélité au sens.
1 - الأمانة ونظرية المعنى:
لقد اقترن مفهوم الأمانة بالحرفية، وهذا يضعنا أمام نوعين من الترجمة : الترجمة الحرفية Traduction littérale
الترجمة الحرة Traduction libre
يرفض "هوارس" في كتابه "فن الشعر"، ومنذ القرن الثالث قبل الميلاد كل "ترجمة حرفية Fidus interpres" لأنها من سمات المترجم ضعيف الفؤاد(1). كما كان هدف المترجمين المسيحيين الأوائل، وهم يترجمون النص المقدس، هو تبليغ كلام الرب، لذلك جاءت ترجماتهم بمثابة عبد وفي للنص المصدر، وهذا ما يرفضه "دولي Etienne Dolet" حيث يقول: "على المترجم ألا يكون عبدا وفيا للنص المصدر، إذ ينبغي عليه أن يتجنب كل حرفية"(2).
لقد اعتبر القرن 17، وفي فرنسا بالذات، بالعصر الذهبي لما سمي بالجميلات الخائنات les belles infidelles، ويعود هذا التعبير، بخاصة، إلى "جيل ميناج Gilles Menage" الذي أطلقه بمناسبة قراءته لترجمات "ب.دبلنكور Perrot d'ablancourt" حيث قال عنها: "تذكرني بامرأة كنت قد أحببتها في [مدينة] تور Tours، كانت جميلة ولكن خائنة"(3). من هنا أطلقت لفظة "خيانة" على كل ترجمة حرة. ويرد "مونان" سبب تواجد هذا النوع من الترجمة إلى أسباب تاريخية واجتماعية تتمثل في إخفاء ما يخالف ذوق العصر وأخلاقه وأفكاره. غير أننا عندما نقول: هذه ترجمة أمينة، هي كذلك لمن؟ ولأي شيء؟
يقول جورج مونان: "الترجمات عندنا كالنساء، لكي يكن كاملات ينبغي أن يكن وفيات وجميلات في نفس الوقت"(4).
وتتحدد الأمانة بوجود علاقة مبتغاة بين النص المصدر وترجمته. فتحت اسم الأمانة نجد طرقا عديدة تهتم بعملية فهم علاقة النص بترجمته، ومفهوم الأمانة مفهوم أساسي تقوم عليه نظرية الترجمة. لقد وقف "مونان" على مختلف طرق الترجمة، فصنفها في نموذجين، سمى الأولى: "الزجاج الشفاف les verres ransparents" وسمى الثانية: "الزجاج الملون les verres colorés". وهما طريقتان في الترجمة، تعمل الأولى على إعطاء الانطباع أن النص المترجم نص قد كتب بلغة المترجم، وهذا ما يقربنا من شكل الجميلات الخائنات، ولكنه لا يعطي أي إحساس بالخيانة. وتعمل الطريقة الثانية على ترجمة النص بطريقة: ترجمة لنص كلمة كلمة، وذلك لكي تجعل القارئ يحس أنه يقرأ النص في شكله الأصلي.
من هنا يمكن أن نلاحظ، ومع جورج مونان، طريقتين في التعامل مع النص ونحن نباشر ترجمته: الطريقة الأولى تعطي الأولوية للنص الهدف Texte d'arrivée ، من حيث لغته وعصره… أما الطريقة الثانية فتعطي الأولوية للنص المصدر texte de départ. فالترجمة كعملية إبداعية بين لغتين، تستلزم إعطاء الأولوية، بشكل أو بآخر، إما للغة-المصدر أو للغة-الهدف.
ولكي لا يكون مفهوم "الأمانة" غامضا، ينبغي أن نجيب عن السؤال التالي: الأمانة لمن؟ وهنا إما أن نجد ركاما من الأجوبة: الأمانة للغة-المصدر، الأمانة للغة-الهدف، الأمانة لمتلقي الترجمة، الأمانة لعصر النص-المصدر. ولكن هل من الحكمة أن تكون الأمانة لعنصر واحد دون العناصر الأخرى؟
-هل يمكن اعتبار النص المترجم نسخة للنص المصدر أم هو تكرار له؟
-ما هو المتغير في الترجمة؟
-أين يتموقع المعادل بين النص-المصدر والترجمة؟
-هل هناك علاقة بين الأمانة والهدف المتوخى من الترجمة؟
-هل يمكن أن تكون الترجمة أمينة؟
يعود تحديد مفهوم الأمانة إلى تحديد نوعية العلاقة المناسبة التي لا تخون النص-المصدر لا بانطباعها ولا بحريتها المفرطة، والتي تمكن الترجمة من لعب دور فعل التواصل.
تعتبر ترجمة النصوص المكتوبة، والترجمة الفورية، والترجمة المتتالية، أكثر الترجمات ذيوعا. إلا أن ترجمة نص مكتوب، هي أكثرها انتشارا. فالمهم في عملية الترجمة، هو إعادة التعبير بوسائل تنتمي للغة المترجم. ذلك أنه يعلم جيدا أنه يترجم نصوصا أو خطابات، وهو لا يترجم إلا لكونه يعرف لغات. تبدأ عملية الترجمة بعملية الفهم la compréhension، فهم النص موضوع الترجمة، ثم تنتقل إلى عملية التجريد اللغوي déverbalisation وتنتهي بإعادة التعبير réexpression.
ففهم خطاب ما لا يتبع لا التنظيم العمودي ولا الخطية الدقيقة لتشكل اللغة ولكنه يعمل على تمييز وتحديد الكلمات, وينتج عن هذا ثلاث نتائج، يمكن اعتبارها ذات فائدة كبيرة لنظرية اللغة ولنظرية الترجمة ولتحليل الأمانة في الترجمة:
1-1-التفسير:
تنصب أولى النتائج على خاصية التأويل/التفسير الملازمة لعملية الفهم. فالمتلقي ليس عنصرا جامدا، بل على العكس من ذلك، يعتبر مؤولا بمعية قدراته اللغوية والنفسية والثقافية والإيديولوجية. فهو يؤول الملفوظات اللغوية، التي تخدم عملية التواصل كوظيفة ذات محتوى معرفي.
1-2-أثر الكناية:
ترى "أمبارو هوطادو ألبير" في كتابها: مفهوم الأمانة في الترجمة، أن المتكلم يرتكز في كلامه على معارف المخاطب. فكلام الطبيب لا يمكن تفسيره بنفس الطريقة سواء أتكلم مع زميل له أو مع شخص لا دراية له بمجال الطب. فالمتكلم ينظم ملفوظه تماشيا مع المعارف المشتركة بينه وبين المخاطب، وانطلاقا من المعرفة المفترضة في المخاطب، من اهتمام ودقة ملاحظة وعمق بالموضوع…. فهذه العملية هي المحددة لأثر الكناية داخل الخطاب، في ارتباطها بالسياق الموقعي contexte situationnel والسياق اللفظي contexte verbale والسياق المعرفي contexte cognitif وبالسياق العام الاجتماعي التاريخي contexte général socio-historique:
-فالسياق الموقعي هو الإطار الذي يتموقع داخله الخطاب، إذ يحيط بكل عناصر الحالة التي ينتج داخلها فعل الكلام: المكان، العناصر المؤتثة، الشخصيات…
-ويتكون السياق اللفظي من الكلمات والجمل التي تحيط بالكلمة أو الجملة موضوع السؤال، فكل كلمة هي عنصر بنائي وسياقي بالنسبة لباقي الكلمات الأخرى.
-ويتكون السياق المعرفي من المعلومات المتوفرة، والتي يمدنا بها النص عند قراءتنا الأولى له.
-السياق العام، وهو مجموع الأحداث والسنن والعلائق الاجتماعية الضرورية لمعرفة أي ملفوظ. فالقارئ الذي لم يتتبع الأحداث لفترة تاريخية معينة يصعب عليه فهم النص (كيف يمكن مثلا لمترجم غربي أن يترجم كلمة "السيبة" كاصطلاح سياسي عرفه المغرب إذا لم يعرف الظروف التي ولدته). فالخاصية الإضمارية للغة هي التي تجعل عملية الفهم، والترجمة من ورائه، تتحقق لا كتلخيص لعمليات لغوية. وتعتبر "ليدرير M.Lererer " أن الظاهرة الكنائية تتشكل بطرق عديدة من لغة لأخرى، فكل لغة تختار سبلا مختلفة للتعبير عن نفس الفكرة.
1-3-طبيعة المعنى:
يعتبر المعنى هو ناتج العملية الذهنية المترتبة عن الفهم. وتحليل المعنى غير منفك عن عملية التواصل؛ فكل فهم هو تثبيت للمعنى. من هنا إمكانية الحديث عن المعنى المضمن كناتج لعمليات الفهم، إذ لا يمكن حدوث تواصل بدون تلق.
وعند الحديث عن مرحلة الفهم تحضر مجموعة عناصر:
الصياغة اللغوية -المتممات المعرفية- الذاكرة، ولذلك ينبغي أخذ المعنى ككلية تشترط ترابط جميع العناصر، لغوية وغير لغوية، وكذا مجموع المعارف. كما ينبغي الإشارة إلى أن التجريد اللفظي كمرحلة يتدخل في عمليات الفهم. إذ المعنى هو التركيب غير اللفظي الناتج عن كل عملية فردية، وبهذا تتكون عملية الفهم من:
1 - إنتاج المعنى من قبل المترجم
2 - تثبيت لهذا المعنى
2 - الثابت في الترجمة:
يصعب تحديد مفهوم "المعنى"، بسبب طابعه التركيبي، غير أن هناك مجموعة مقاربات تسعى لتحديده انطلاقا من تحليله وضبطه داخل المدونات المستعملة. وتحديد المعنى يضعنا أمام مجموعة مرادفات تصب، بشكل أو بآخر، في نفس الاتجاه. ومن هذه المفاهيم هناك: الدلالة - الدلالة المحينة - المعلومة - الأسلوب - الأثر - القصد…
يتموضع المعنى بمحاداة مجموعة عناصر لغوية وأخرى غير لغوية. ولإظهار وظيفته بالنسبة للمعايير التي تتدخل في العملية التواصلية، ينبغي تحديد المعنى، في إطار الفروقات المميزة له عن باقي المفاهيم.
2-1-ينبغي التفريق بين الدلالة والدلالة المحينة والمعنى. فالدلالة هي المفهوم أو المفاهيم أو المفاهيم المرتبطة بالدال. أما المعنى فيهتم بفعل الكلام ويوظف الدلالة المحينة داخل السياق (لغوي أو غير لغوي). فخارج السياق، كل كلمة تبعت مفهوما أو لائحة من المفاهيم، إنها دلالتها أو دلالاتها الكامنة والمحتملة.
لا يمكن الحديث عن المعنى إلا عندما نكون إزاء إنتاج للخطابات اللغوية، انطلاقا من تحيين الدلالات. وتنتمي الدلالة المحينة إلى العناصر اللغوية التي تتدخل في عملية بناء المعنى وتشكله. ويتأسس المعنى في فعل الكلام، فالكلمات والجمل تنتج معاني غير متوقعة حسب السياق والمتممات المعرفية للمتلقي.
وعليه، نقف على صعوبة عدم تحديد المعنى.
2-2-المعلومة هي كل ما يتبقى ثابتا بعد كل العمليات القابلة للانعكاس والتشفير، فالمعلومة والمعنى شيئان مختلفان. فالشعر والسرد يمكنهما أن يحملا نفس المعلومات، إلا أنهما لا يعطيان، بالضرورة، نفس المعنى. فالمعلومة تتدخل في بناء المعنى، ولا تتماثل معه. والمعلومة مقابل للشكل اللغوي وللعناصر غير اللغوية التي تتدخل في فعل الكلام لإنتاج المعنى.
3-2-يعبر الأثر عن الناتج وعن الظاهرة المحدثة بسبب، فيما يخص التواصل اللغوي. ويصبح الأثر الناتج المعرفي والانفعالي الذي تنتجه سيرورة الفهم لدى المتلقي. وهو التركيب الحاصل لعملية الفهم. فالصياغة اللغوية التي يقوم بها المؤلف، يمكن أن تحدث آثارا مختلفة عند المتلقي (انفعال، ضحك، بكاء، إقناع….). وهنا أيضا لا ينبغي مطابقة الآثار التي توجد في حالة ما بقوة موجه نحو المعنى. فالأثر هو التركيب النهائي الموجه لعملية الفهم. فكل تجريب لأي أثر لا بد وأن يسبقه تتبيث للمعنى. فالمعنى والأثر مرتبطان، بدقة، وينتميان لنفس السيرورة. فإذا تغير المعنى تغير الأثر كذلك.
وعليه، يصعب قياس الأثر الناجم عند المتلقي، لأنه يمكن أن يظهر بشكل مغاير، من متلق إلى آخر، بحسب المميزات الخاصة، الإيديولوجيا، المعين الشخصي، نوعية العلاقة التي تربط المتلقي بالمتكلم…
ويتدخل الأثر، كعنصر آخر، لبناء المعنى، ما دام يعمل كمحدد في عملية التكوين. والأثر مفهوم أساسي في نظرية الترجمة وفي تحليل الأمانة. لذلك يتوجب على المترجم أخذ الأثر الناتج عن النص-المصدر لدى المتلقي في اللغة-المصدر بعين الاعتبار وذلك لكي ينتج نفس الأثر، ويحافظ عليه لدى متلقي ترجمته.
2-4-يمكن اعتبار القصد عند المؤلف هو الأثر المقصود effet voulu، وهو قصد القول. وهو الهدف الأساسي الذي يسعى إليه المترجم لذلك لا يمكن أن يتطابق القصد مع الأثر عند المؤلف. فلنتصور أننا أمام مترجم ينتمي إلى حزب يميني يود ترجمة نص مكتوب من قبل سياسي يساري، قصد من خطابه إقناع قارئيه بالتصويت لحزبه. ماذا يتوجب على هذا المترجم اليميني فعله؟ لا ينبغي له أن يترجم الأثر الذي أحدثه النص-المصدر في المترجم. بل ينبغي عليه أن يتوجه إلى مقاصد المؤلف بالنسبة لمتلقي النص-المصدر.
2-5-غالبا ما تتطابق دلالة الأسلوب والمعنى. وتعريف "أوجين نايدا E.Nida" هو دليل آخر على أن الترجمة "ينبغي أن تنتج داخل اللغة المتقبلة رسالة اللغة-المصدر بواسطة المعادل الأكثر قربا والأكثر طبيعية فيما يتعلق بالمعنى، ثم فيما يخص الأسلوب"(5).
فالفرق بين الدلالتين هو أن الأولى تعني أسلوب القول، بينما تعني الثانية محتوى القول. فشكل الملفوظ والمعلومة المرغوب إيصالها ضروريان لبناء المعنى، ما دام الأسلوب عنصرا لسانيا يتدخل في عملية الفهم، لتجريد اللفظ ولإنتاج معنى أو أثر لدى المتلقي. فكل لغة تمتلك إمكانات خاصة بها عند عملية الترجمة.
وتتمظهر علامات الأسلوب بأشكال مختلفة حسب اللغات وعليه، يمكن إنتاج نفس الأثر عند قارئ النص المترجم.
3 - الأمانة للمعنى:
كيف تشتغل العلاقة التي تربط بين النص-المصدر والنص المترجم؟ تجمع كل نظريات الترجمة على أن النص المترجم ينبغي أن يقول نفس الشيء، أن يقول ما يقوله النص-المصدر.
أما بالنسبة لنظرية المعنى، تتحدد الأمانة في الترجمة عندما تكون إزاء إنتاج نفس المعنى، رغما عن مجموعة متغيرات.
ما هي المتغيرات التي تتدخل في حالة ترجمة نص مكتوب؟ للحصول على ترجمة وفيه للنص-المصدر ينبغي الانفلات خارج التغييرات التي تشرط النص المترجم، رغما عنه.
لا يخلو النص المترجم من بعض المعيقات التي لا دخل لأي كان فيها. على الرغم من حرص المترجم على نقل النص بكل أمانة. ومن هذه المعيقات، ما يلي:
3-1-الاختلافات اللغوية:
توجد هناك علاقة بين النص-المصدر وترجمته، لخلق تطابق نسبي. غير أننا نصادف عناصر لغوية وغير لغوية تعمل على جعل هذا التطابق غير ممكن. وهي اختلافات على المستوى الصرفي والتركيبي والدلالي. وهذا يقع حتى بالنسبة للغات الأكثر تقاربا (مثال الفرنسية والإسبانية فيما تذهب إلى ذلك "أمبارو هورطاد وألبير").
3-2-الاختلاف بين المؤلف ومترجمه:
تعتبر المطابقة والاختلاف من الخصائص الأساسية للإنسان. فهو متطابق لكونه ينتمي لنفس الجنس، ومختلف لأن الموروثات الجينية لكل واحد تختلف من فرد إلى آخر، ومختلف لكونه كائنا تاريخيا محكوما بتاريخه وحضارته ومحيطه. ولا بد من أخذ هذه الاختلافات بين المؤلف والمترجم بعين الاعتبار.
3-3-اختلاف العصر:
يتعذر أن نجد تزامنية، بمعناها الدقيق، للنص المصدر وترجمته. فالغالب هو أن يكتب النص المصدر في زمن معطى سابق على معنى الترجمة، وخارج عن مرحلة إنتاج النص-المصدر. فالبعد الزمني هو المتغير الأكثر تحديدا في الأمانة للنص المصدر. ذلك أن المسافة الزمنية تعيق علاقة المحددات الشارطة لعملية الترجمة.
3-4-اختلاف المتلقي:
يمكن حصر دلالة النص-المصدر من قبل المتلقي، إذا كانت هذه الدلالة محددة من قبل المؤلف أو انطلاقا من وظيفة النص. ذلك أن النص المترجم يحدد متلقيه الخاص، انطلاقا من محدد اجتماعي أو ثقافي أو مهني. إلا أن المتغيرات الناجمة عن النص داخل عملية الترجمة ليست لغوية بالضرورة كما يمكن أن يسود الاعتقاد.
4 - الأمانة والتطابق:
إن مفهوم التطابق ومفهوم الاختلاف مفهومان أساسيان في التفكير الإنساني، إذ يعودا لسجلات فلسفية قديمة. ذلك أننا نميز، وانطلاقا من أرسطو، بين التطابق العددي والتطابق الكيفي/النوعي؛ وإن كان بعض الفلاسفة يشك في وجود هذا النوع الأخير من التطابق. يتشكل مبدأ التطابق المستعصي identité induscanible، بالنسبة " لليبنتر Leibniz" حينما تكون الأشياء الواقعية غير متطابقة تطابقا كيفيا، من دون أن تتمازج هذه الأشياء.
لا يمكن الحديث عن التطابق حتى داخل اللغة الواحدة، لأننا نصادف اختلافات جهوية على مستوى سجالات اللغة المرتبطة بالقدرات الفردية. فالعلاقة بين المعنى والصياغة اللغوية ليست علاقة مشاركة بشكل نهائي. فالكلمة الواحدة أو الجملة الواحدة يمكنها أن تأخذ معاني مختلفة، حسب السياق، وفي ارتباطها بمختلف العناصر الموظفة في فعل الكلام. فما يهم في عملية الفهم، هو المعنى المضمن، والأثر الذي يظل متعدد الوظائف.
من هنا يمكن أن نتساءل: هل هناك تطابق عام بين المتكلم والمتلقي، بين المؤلف والقارئ؟ إن تعدد القراء شيء طبيعي، لذلك فإن الصياغات اللغوية للمعنى ستعرف تعددا بتعدد القراء. من هنا يمكن أن نتحدث عن تطابق نسبي. فعندما ينطق القاضي ببراءة المتهم، فإن حكمه هذا يظل ساريا. ولكن هل يكون مطابقا لجميع الأحكام والقضايا؟
إن اتهام أي ترجمة بعدم تطابقها للنص-المصدر، هو اتهام مشكوك فيه، أولا، لأن متطلبات التطابق متموقعة في مقابل اللغة، وثانيا لأننا نعطي الترجمة تطابقا لا وجود له داخل التواصل الأحادي للغة.
يشكل اختلاف اللغات نقطة أساسية، فيما يتعلق بصعوبة وتعذر النقل. ذلك إن الحاجة إلى التطابق اللغوي، داخل الترجمة طرقت بشكل خاطئ، فما دامت اللغات مختلفة فهذا بسبب كاف على عدم إنتاج أي شكل من أشكال التطابق.
وإذا كانت هناك حاجة إلى التطابق في الترجمة، فإن ذلك رادع إلى خصوصيات التواصل الأحادي للغة، حيث تشارك الترجمة في عدم التطابق العام للفهم.
فالتطابق الممكن أن نتحدث عنه في الترجمة في الترجمة هو تطابق المعنى، والأثر الناتج عن علاقة الأمانة في الترجمة بالنص-المصدر.
يمكن الحديث عن أمانة للمعنى عندما تكون هناك ملاءمة بين المعنى الحاصل، لدى المتلقي عند قراءته للنص الهدف، وبين معنى النص-المصدر.
فالوفاء للغة-الهدف (لغة الترجمة) والوفاء للغة-المصدر والوفاء لمتلقي الترجمة هي المعايير الثلاثة والأساسية لأية أمانة في الترجمة. يستعمل المترجم، داخل تعبيره وسائله الخاصة متفاديا كل كلام غريب. لأن الغرابة في الترجمة يمكنها أن تؤدي إلى خيانة الترجمة.
لا يشكل تواجد "الكلمة" و"المعنى" أي تعارض عند الحديث عن الأمانة في الترجمة. ذلك أن المتغير، في الترجمة، هو المعنى، الذي يقيم علاقة غير لغوية مع النص، والذي يتشكل مع العلاقة الثلاثية لأمانة الملفوظ.
تقول "امبارو هوركادو ألبير": "إذا رغب المترجم في ترجمة المعنى المضمن (والمكافئ لما أراد الكاتب قوله) ينبغي أن يكون أمينا للمعنى لا للكلمات المضيعة لهذا المعنى. وبالنسبة لإعادة التعبير في لغته [أي لغة المترجم ] يستعمل، بشكل ضروري، صيغا تبتعد عن صيغ النص-المصدر، لأنه يترجم لمتلق مختلف، وفي لغة هي بالضرورة مختلفة"(6).
تشترط النظرية التأويلية في الترجمة مسارا خاصا يتوجب على المترجم، إن أراد الوصول إلى أمانة للمعنى، اتباعه. ويتمثل هذا المسار في عملية الفهم والتجريد اللفظي ثم إعادة التعبير. وهو مسار عملي حاضر في عملية الترجمة.
5 - أبعاد الأمانة:
ترى "أمبارو" ضرورة تواجد ثلاث فرضيات لقيام الأمانة في الترجمة: 1 - الذاتية، 2 - التاريخية، 3 - الوظيفية.
فالممارسة الدائمة وتعليمها جعلت "أمبارو" تستخلص تواجد ترجمات عديدة للنص الواحد. فالخاصية التأويلية الخاصة بالفهم، ومختلف الإمكانات التي يتوفر عليها "المراد قوله" هو التعبير عن نفس المعنى بكلمات عديدة. وهذا الاختلاف في اختيار كلمة بعينها لترجمة كلمة، من قائمة الكلمات في لغة ما، يعود بالأساس إلى الذاتية، أي ذاتية المترجم. كما أن اختلاف زمن النص-المصدر وزمن الترجمة تطرحه "أمبارو" في إطار الفرضية التاريخية، إذ من السهل ملاحظة أن كل عصر ينتج ترجماته للنصوص القديمة. والمثال الذي نستحضره هنا، هو اختلاف الترجمات العربية لنص "فن الشعر" لأرسطو: ترجمة أبي بشر متى/الفارابي/ابن رشد/عبد الرحمان بدوي… تبقى معرفة ما هي نتيجة تدخل البعد الزمني في الأمانة في الترجمة؟ كيف ينبغي العمل حتى نظل أوفياء، مع أن سمة التغيير في الأمانة تتغير مع العصور والحقب؟ إلى أي حد كانت ترجمة عبد الرحمان بدوي وفية لنص أرسطو مع الفارق الزمني؟
5-1-الذاتية والأمانة للمعنى:
تتمظهر الذاتية داخل عملية الترجمة بتدخل القدرات اللغوية (اللغة-المصدر، اللغة-الهدف) والقدرات الخارج لغوية للمترجم. كما تتجلى الذاتية في عملية الترجمة في اختيار المترجم لطريقة ما في ترجمة النص (الطريقة الحرفية-الحرة-التفسيرية) فعندما يستخدم المترجم الطريقة الحرفية فهو يقتصر على تحديد قدراته اللغوية، فيعمد إلى ترجمة اللغة فحسب. وعندما يستعمل مترجم آخر الطريقة الحرة فهو يترجم إذاك النص-المصدر بشكل حر. فهو يطابق المعنى المضمن بما أراد المؤلف قوله. أما عندما يختار مترجم ثالث الطريقة التفسيرية، فهو يتدخل في الترجمة بمجموع معارفه.
وهنا تجذر الإشارة إلى أن هذه الطرق الثلاث يمكن مصادفتها -في الغالب الأعم- موظفة من قبل مترجم واحد، بل وربما في النص الواحد. فهذه الانتقائية هي المحددة للذاتية. وبهذا ترى "أمبارو" أنه لا يمكن الحديث عن طريقة واحدة في الترجمة، بل أكثر من ذلك ترى أنه لا يمكن الحديث عن أية طريقة في الترجمة. وبهذا فهي تحث المترجم على استعمال:
-الطريقة الحرفية عندما لا يكون المترجم متوفرا على معارف خارج لغوية، أي عندما تنحصر معرفته في لغة النص فحسب.
-الطريقة الحرة عندما لا يكون المترجم متقنا للغة أخرى سواء أكانت لغة النص-المصدر أو لغة النص-الهدف.
-الطريقة التفسيرية تجعل المترجم غير ملزم بالتدقيق في لغة النص-المصدر. وهذه الطريقة تمكن المترجم من المراوحة بين مرحلة الفهم والتجريد اللغوي وإعادة التعبير. وبالتالي تجعله يركز على المعنى، وبأن يكون وفيا لهذه المعايير الثلاثة. ولتوظيف هذه الطريقة ينبغي على المترجم أن يتوفر على معارف كافية باللغة-المصدر وعلى معارف خارج لغوية تلائم اللغة-الهدف وتتحكم فيها.

5-2-التاريخية والأمانة للمعنى:
إن ظاهرة تحيين المرحلة ليست ذات مستوى لغوي فحسب، ولكن يمكن أن نصادف في الترجمات اختلاف الأذواق الجمالية للمرحلة، المحرمات المبادئ الإيديولوجية… فالمترجم محاصر ليس فقط بلغة العصر الذي يترجم له، ولكن بمجموعة من العناصر، ذات نسق خارج لغوي: إيديولوجي، سياسي جمالي…
لقد أشار "جورج مونان" إلى أن "الجميلات الخائنات" لا تعمل إلا على تجنب كل ما يتواقف مع ذوق العصر، وتنجز مقارنة جمالية وأخلاقية بين النص والقارئ. وتعتبر الفترة الزمنية التي تمت فيها الترجمة بمثابة معيق على مستوى اختيار الطريقة الموظفة في الترجمة. فأهمية النص ونوعيته مهمة في الرغبة في ترجمة النص. فكل فترة تستوجب تحيينا للترجمة فعندما يكون النص قديما، فإن المسافة التي تفصله عن زمن الترجمة تضاعف من مشاكل الترجمة. وذلك لأن لغة النص-المصدر قديمة ويمكنها أن تطرح عدة صعوبات في الفهم. ولأن العناصر ذات الترتيب الخارج لغوي والمتداخل في النص-المصدر قد تنغلق معرفته على المترجم. ولهذا نجد، دائما تأويلات مختلفة وحلولا عديدة لتقريب النص من القارئ. كما أن هناك صعوبات تاريخية تعود إلى حالة اللغة في فترة زمنية معينة.
5-3-الوظيفية والأمانة للمعنى:
تعتبر الوظيفية المحدد الثالث للأمانة في الترجمة، وهي متفرعة عن الدينامية، وتتحدد بأهداف الترجمة وإرغامات اللغة. وفي مقابل هذه العناصر، يمكن أن نتساءل إذا كانت الأمانة ستظل هي هي؟ وهل يمكنها أن تتمظهر بنفس الطريقة أم تأخذ أشكالا مختلفة حسب الحالات؟
خاتمة:
إن المشاكل النظرية التي تطرح على الترجمة لا يمكن حلها أو إضاءتها إلا في إطار النظرية اللسانية التي ارتبطت بها نظرية الترجمة. ويتساءل "ج.مونان" على طول كتابه" المشاكل النظرية للترجمة"(8) حول إمكانيات الترجمة في استغلال النظريات اللسانية الحديثة، وذلك بهدف إيجاد مشروعية الترجمة كعملية لسانية. وبهذا يركز اهتمامه على اللغات. وليجعل هدف الترجمة قول ما يقول النص-المصدر. غير أن هذا "النفس شيء" يظل غير محدد. إن هدف "ج.مونان" هو الإحاطة بمسألة الترجمة، وذلك بشرح وظائفها انطلاقا من مقومات النظرية العامة للغات.
لقد بقي السؤال المفتاح هو معرفة كيف تعمل الترجمة لتكون أمينة وألا تخون النص-المصدر لا بخضوعها المطلق له ولا بحريتها المسرفة؟ يصب السجال المثار حول الأمانة في قلب عملية الترجمة والتواصل اللغوي العام، أي العلاقة بين "الكلمة" و"المعنى". ولكي تكون الترجمة أمينة للنص-المصدر ينبغي ضبط الجهاز المعرفي بغية تحديد المعنى. وهذا يستوجب مراعاة معايير الأمانة. كما ينبغي تأويل النص قبل ترجمته دون الخروج عن حدود المعنى.
------------------
الهوامش
1 - فن الشعر، هوراس، ترجمة لويس عوض، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط.3، 1988، ص 118.
2 - Cité par Amparo Hurtado Albir, la notion de fidélité en traduction, coll. Tranductologie n°5, Didier Erudition 1990, p.14
3 - نفس الصفحة.
4 - MOUNIN (G), Linguistique et traduction, Bruxelles, 1976, p. 145.
5 - Cité par Amparo Hurtado Albir, op.cité, pp. 78-79.
6 - نفسه، ص 118.
7 - يمكن الرجوع إلى كتاب فن الشعر لأرسطو، مع الترجمة العربية القديمة وشروح الفارابي وابن سينا وابن رشد، ترجمه عن اليونانية وشرحه وحقق نصوصه: عبد الرحمان بدوي، دار الثقافة، بيروت، بدون تاريخ.
8 - MOUNIN (G), les problèmes théoriques de la traduction, Paris, Gallimard, 1963.

هل تجيد لغة أخرى؟





ننطلق من هذا السؤال لمعرفة المساعي الجدية للمثقف في إجادة لغة أخرى ،يدرك أهميتها ،ويدرك اللذة والجمال والإفادة الواسعة في قراءة نصوص ودراسات بلغاتها الأصلية ،وهل حدث أن سعى يوما إلى دراسة لغة أخرى أكاديميا لأجل كتابته الإبداعية والنقدية والفكرية
وهل هناك معرقلات لتعلمها ذاتيا ، وهل تشكل هاجس لديه أن عدم تعلمه لغة اجنبية أخرى يشكل نقصا في مهاراته ،ومن ثم يعد سببا في ان تكون نصوصه وكتاباته ليست بالمستوى المطلوب او المرضي لديه على الأقل،ماهي الأسباب الذاتية والموضوعية التي حالت دون تعلمك لغة أخرى،توجهنا بهذه التساؤلات الى مثقفينا وكتابنا لنستقرىء اهتمامهم الجدي بما طرحناه رايا وممارسةاللغة الدفينة القاص ابراهيم سبتي اشاد بكتاب –عرفهم في تجربته الحياتية –بذلوا قصارى جهودهم في سبيل تعلم لغة اخرى كي يقرؤوا نصوص الاخر بلغته، وبحسب رأيه هنا تنتفي وساطة المترجمين كي نتمكن من قراءة ادب وفكر الاخر قراءة جاهزة ،فضلا عن ان المتعلم لغة اخرى يمتلك مهارة اخرى تفيده معرفيا وابداعيا ؛(تكمن قدرة الكاتب في مهارته الكتابية على موهبته في ادارة لغته التي يكتب ويقرأ فيها .. مع ان الاعتبار الاول في فهم نوازع اللغة يبقى مسيطرا على ادواته ان اتقن لغته الام حصرا .. الكتابة بلغة اخرى ، كتابة في ثقافة لم تكن ثقافتك يوما ولم تكن منطقة اشتغالك ابدا لكنها ستحرق مسافات طويلة في تعلم اشياء ظلت بعيدة .. انها لغة لعالم اخر فيه جسارة الاندفاع نحو مجاهيل مغلقة ورموز عصية احيانا .. في حياتي عرفت كتابا بذلوا اقسى لحظات اعمارهم من اجل ترجمة دقيقة وشريفة لنص اجنبي ولكنهم لم يكونوا مترجمين لأنهم أرادوا فقط قراءتها وفك الغازها .. وعرفت اخرين استلوا نصوصا نادرة من كتب أجنبية ليقدموها لنا ، لاننا لم نقرأ تلك النصوص ولم نعرف طريقها . فالكاتب الذي يعرف لغة غير لغته ، سيكون بمقدوره الاطلاع على مواهب الآخرين وأنماط كتاباتهم مباشرة دون وسيط ، سيكون بمقدوره ايجاد مهارة اخرى تدعمه فنيا وابداعيا). ومن ثم يذرف سبتي حسرات صادقة في عدم تعلمه لغة ثانية، ويعد المسافة الفاصلة بين لغته الام والاخرى مساحة ضائعة من عمره :( اشعر اننا الذين أخفقت جهودنا في تعلم لغة غير لغتنا منذ مرحلة المدارس وحتى المرحلة الجامعية وما بعدها ، نغرف من لغتنا الوحيدة وكاننا نيّام عما يدور من حولنا.. اشعر بالتقهقر حين ارى كتابا غير عربيا معروضا في مكتبة او على رصيف، واعتقد بان المسافة الفاصلة بين لغتي وتلك، هي مساحة مضاعة من عمري واني تاخرت كثيرا في الدخول اليها .. ان تكتب بلغة غير لغتك ، فهي متعة الخلق والابتكار لأنك ستكون اكثرنا نطقا بأسماء لم نسمع بها على الاقل وستبقى اللغة الاخرى دفينة في دواخلي لا اعرف متى اظهرها مع اني لم اتعلمها بعد). وعاء الفكر الآخر الباحث والاكاديمي جبار سويس الذهبي ،اكد اولا ضرورة اتقان اللغة الام من قبل الباحثين والاكاديميين والمثقفين والكتاب ، ومن ثم ضرورة اتقان لغة اخرى، فازاء القفزات الهائلة في العلم والتكنولوجيا ، لاينفع انتظار ما يجود به المترجم المحترف : ( اللغة هي وعاء الفكر، وهي أداة التواصل المثلى بين البشر، ومن دونها نفقد وسيلة مهمة من وسائل الاتصال مع الآخرين، لذا من الواجب أن يمتلك ارباب القلم وأصحاب صنعة الكلام ناصية لغتهم التي يستعملونها في كتاباتهم وأن يتقنوا اساليبها، ويسبروا غورها لمعرفة اسرارها، ومواطن جمالها، وهذه أولى أولويات المثقف/الكاتب. ومن ثم فإن اتقان لغة أخرى يمنحنا فرصة مشاركة أبنائها أفكارهم والاطلاع على طرائق تفكيرهم ، والإفادة من علومهم المختلفة ، ونحن إذ نعيش في عالم أصبح بفصل وسائط الاتصال صغيراً، أو مثلما يعبر عنه –قرية صغيرة- صار من الضروري التواصل بلغات أخرى، ولاسيما لغة العلم والحضارة، لمواكبة مسيرة العلم التي أخذت تنطلق بسرعة هائلة، لا يمكن اللحاق بها من دون متابعتها أولا بأول، ولاينفع معها انتظار ما يجود به المترجمون لانه بالمحصلة هذه اللغة وعاء فكر الاخر ، فمن الملح ان نتواصل معه من دون وسيط)،ومن ثم ينقل لنا جبارسويس معاناته مع النصوص المترجمة من قبل مترجمين محترفين ، ففيها تلاعب بروح النص : (أن لقراءة النصوص بلغاتها الأصلية فائدة لا تعادلها الترجمة التي تحمل من فكر اصحابها ما قد يضر في كثير من الاحيان بروح هذه النصوص، وأنا شخصياً خضت تجربة الاعتماد على المترجمين حين احتجت بعض النصوص في أطروحتي، إلا أنني تركت ما ترجم لي واعتمدت في ترجمتها على نفسي، وهذا الأمر علمني شيئاً مهما هو أن ما تقرأه أنت في اختصاصك وتترجمه، لايرقى إليه مايترجمه الآخرون من غير ذلك الاختصاص، إذ لايخفى أن لكل علم مصطلحاته وألفاظه التي قد تدل دلالة مغايرة في اختصاص آخر، وهو ما يجعل النص في كثير من الاحيان مربكا لايحمل المعنى المراد منه، إذا ما تصدى لترجمته آخر من غير ذلك التخصص.وللقراءة بلغة الكتاب الأصلية -فضلا عما ذكر- متعة تتجلى في شعورك وأنت تقرأ قربك من كاتبه، وأنك تلامس أفكاره بلا وساطة من ترجمة أو حاجز من مترجم، تشعر كأنه أمامك، جالس بين يديه تحاوره). منافع المنفى الكاتب والمترجم جمال جصاني اشار في مدونته الى بديهية ضرورة تعلم لغة اخرى، وقراءة الاخر بلغته ،وهنا يذكر جصاني رايا لافتا للانتباه حين يقلل من شأن امتلا ك ناصية بعض اللغات الشرقية ،وان اللغات الحية بحسب قوله هي اللغات الغربية ،ويذكر على سبيل المنافع الكبرى التي جناها مثقفو المغرب العربي من اللغة الفرنسية ، اما في العراق فالامر كما يصفه يصل الى مستوى النكبة، حيث حملة الشهادات العليا-غالبيتهم- ييفتقرون الى امتلاك ناصية لغة اخرى : (لم يعد خافياً على احد؛ ان اجادة لغة اخرى تمكن المرء من العيش في حياة اخرى، ومن ثم الولوج الى عالم وفضاءات لايمكن سبر اغوارها دون مساعدة اللغة الجديدة. ان عدم اجادة اية لغة اخرى غير اللغة الام يشكل عائقاً جدياً امام من يضع سبل الثقافة ودروب الابداع نصب عينيه، خاصة اولئك الذين لايجيدون سوى العربية ومن تضامن معها من لغات شرقنا الاسلامي (الفارسية والكردية والتركية و....) وهذا أمر لايحتاج الى جهد كبيرلفك طلاسمه، فهذه اللغات والصادحين بها ادمنوا المكوث عند هامش الاحداث والتصدعات الكبرى التي قذفت سلالات بني آدم عبر قفزاتها العلمية والمعرفية والقيمية الى ذرى انكمش فيها كوكبنا المترامي الاطراف الى ماعرف بالقرية الكونية. من دون لغة أو أكثر من اللغات الحية، يبقى (المثقف) في مضاربنا يترقب ما يتلقفه المترجم من مؤلفات ونصوص، يتقلها اليه وفق قدراته الفعلية والتي غالباً مايشوبها الضعف والخلل، لان هذه المهمة الحيوية تحتاج الى عمل مؤسساتي ضخم، وهذا العمل (الترجمة) يقبع في مؤخرة اهتمامات (اولي الأمر)... غير القليل منا يعرف مدى الفائدة التي منحتها اللغات الاجنبية الحية كالفرنسية مثلاً لمثقفي المغرب العربي، حيث تمكن العديد منهم من الارتقاء الى قمم معرفية وعلمية، منحونا من خلالها دراسات واضاءات وترجمات متميزة. اما في هذا الوطن المنكوب (العراق) والذي تراجعت فيه الثقافة وملحقاتها الى مستويات لاحدود لها، انكمشت حظوظ اللغات الاجنبية الى قعر الاولويات، حيث يصطدم المرء بالمئات من الذين انتزعوا الشهادات العليا دون الحاجة للاستعانة بلغة اخرى...!) جصاني يكر لنا جهوده الذاتية في تعلم اللغة الفارسية وتلك من حسنات المنفى : (اما بالنسبة لي فالفضل يعود الى المنفى الاجباري الذي منحني لغة اخرى هي الفارسية، التي ساعدتني في الاطلاع على العديد من المؤلفات المترجمة وغير المترجمة، ومن الجدير بالذكر فان الترجمة عندهم هي أوسع بكثير منها في بلدنا، الذي هجرته مثل هذه النشاطات الحيوية منذ أمد بعيد. وفي الختام يمكن القول بصعوبة او استحالة ظهور مثقف حقيقي من دون اجادته لغة أو لغات حية). المترجمون أزاحوا عنا هذا الهم القاص علاء مشذوب لم يبد متحمسا الى تعلم لغة اخرى، لان ذلك من شأن مترجمين محترفين يزيحون عنا تعلم لغة اخرى ،ويبدو ايضا ان لديه فهما ملتبسا بشأن محلية الكاتب او عالميته وعلاقتهما بامتلاك ناصية لغة اخرى: ( لا أعتقد أنني سعيت يوماً لتعلم لغة قوم ما ولم يشكل ذلك عندي هاجساً في عدم تعلمها ومن ثم مركب نقص ولم ينعكس ذلك على النصوص التي أكتبها لكي تكون بالمستوى المطلوب لأن المحلية هي الهوية الحقيقية لكل إنسان وما وصول «نجيب محفوظ» الى نوبل (بمعنى العالمية) إلا من خلال محليته ومثله «غابريل غارسيا ماركيز» بقي شيء مهم هو إن هناك علم يدعى «علم الترجمة» وهو يفي الغرض إذ ليس مناط بالمبدع أو المثقف معرفة لغة قوم ما حتى يفهم نصوصهم وإبداعاتهم فقد قرأنا نصوص أغلب الروائيين والمفكرين واستطعنا أن نتفاعل معهم ومع إبداعاتهم . ولكني لست ضد من يتعلم لغة أخرى . أما إذا جاءت فرصة بعثة أو زمالة الى أي من الدول الأوربية عند ذلك فأن واجب تعلم اللغة يصبح من الضروريات ).
بغداد- باقر صاحب
http://www.alsabaah.com/paper.php?source=akbar&mlf=interpage&sid=108810 

الجمعة، 17 سبتمبر 2010

إمبرتو إيكو يستحضر في دروسه الأخلاقية تجارب التاريخ ويتأملها بين إكراهات السياسة واختيارات الثقافة

تاريخ النشر: الخميس 09 سبتمبر 2010
محمد نجيم
أصدر المركز الثقافي العربي في بيروت والدار البيضاء، (2010)، الترجمة العربية لكتاب الروائي والكاتب الإيطالي الشهير إمبرتو إيكو: “دروس في الأخلاق”، وقام بترجمة هذا الكتاب الناقد المغربي سعيد بنكراد انطلاقا من الترجمة الفرنسية التي صدرت عن دار النشر الفرنسية العريقة “غراسيه” في طبعة صدرت عام 2000. ويقع الكتاب في 152 صفحة من الحجم المتوسط، دون الإشارة إلى صاحب لوحة الغلاف. يضم الكتاب خمس مقالات لصاحب “بندول فوكو”، و”اسم الوردة”، وهي تحمل العناوين: “التفكير في الحرب”، “الفاشية الأبدية”، “حول الصحافة”، “الأنا والآخر”، “التروح وغير المسموح”.
وقد كتب إيكو هذه المقالات الخمس على فترات متباعدة، تتناول سلسلة من القضايا الخاصة بالوجود الإنساني، منها الأخلاق والعلمانية والتدين والثقافة والمثقف والعلاقة مع الآخر وغيرها من الموضوعات ذات الطابع القيمي العام. ويقول الدكتور سعيد بنكراد في مقدمة هذا الكتاب “وليس في نيتنا تقديم ملخص لهذه المقالات أو بسط القول فيها، فهذا أمر لا ترجى منه فائدة، فالنص يُغني عن التلخيص، والتلقي المباشر أهم من وساطة مترجم لا يمكن تبرئة ذمته، فهو ينقل ما يشتهيه، لا ما يبحث عنه القارئ بالضرورة. ومع ذلك، فإن ما يقوله العنوان وحده كاف لأن يثير الكثير من التساؤلات حول مقولة الأخلاق، فهي تكاد تكون الثيمة الرئيسية للكتاب كله.”فسوء الفهم” و”الجهل” بخصوصيات الآخر و”الدونية الحضارية” و”التفوق العرقي” مواقف تندرج كلها ضمن ما يمكن أن يشكل أخلاقاً تُعتمد في الحكم على الآخر وتصنيفه. فالـ”نحن” غامضة دائماً، لأنها تعتمد معاييرها للحكم على الآخر وتحديد المقبول والمرفوض والمحبذ والمكروه عنده. وباسم هذه الرؤية تمت في كثير من مراحل التاريخ مقاضاة الآخرين والحكم على سلوكهم، بل وإعلان الحرب عليهم. فالـ “نحن” التي قادت الحرب في أفغانستان والعراق وغيرها من مناطق العالم ليست آتية من خارج التاريخ، إنها ثمرة من ثماره، وجزء من سيرورة حضارية تشكلت باعتبار هويتها تلك في علاقتها بالآخرين لا في انفصال عنهم. ولذلك، لا يمكنها أن تتحدد باعتبار ذاتها، أي باعتبار المخزون الأخلاقي عندها، بل يجب أن تقيس أخلاقها بأخلاق الآخر (إن العزلة لا تقود إلا إلى الفاشية).
وهو ما يعني استحالة تحديد الدوائر الأخلاقية لـ”الأنا” دون الإشارة إلى تلك التي تخص “الآخر”. فهذه الدائرة ممكنة الوجود في حدود وجود أخلاق أخرى، لا تناقضها بالضرورة، ولكنها قد تجعل منها أمراً ممكناً، أو تكشف عن تهافتها. فمن السهل جداً اتهام الذين كانوا يقدمون أبناءهم قرباناً للآلهة بالهمجية والتوحش، لأنهم ذبحوهم أو القوا بهم في البحر أو النهر. وفي المقابل، من الصعب إقناعهم بأن إلقاء قنبلة ذرية على مدينة وتدميرها بمن فيها وما فيها يدخل ضمن شرعية استعمال العنف من أجل درء عنف أشد.
والحاصل، أنه إذا كانت المبادئ الأخلاقية كونية من حيث إنها دالة على وعي الذات بحدودها في علاقتها بالآخر، ومن حيث كونها تشير إلى إحساس إنساني يكشف عن تقدير الذات لنفسها في المقام الثاني، فإنها مع ذلك، ليست كذلك إلا في الظاهر؛ فهي تختلف بالضرورة باختلاف الأسس العقدية والثقافية والمعرفية التي تقوم عليها. فأخلاق الدين ليست هي أخلاق العلمانية، فهي في الدين تعاليم فوقية أصلها غيبي، أما في العلمانية، فلا علاقة للمضامين الفعلية للسلوك الأخلاقي بالأصل العقدي الذي يسندها”. يعرّفنا الكتاب على مبادئ اعتنقها صاحب “بندول فوكو”، وهي ـ برأي سعيد بنكراد ـ المبادئ “ التي يجب، في عرف المؤلف، أن يتحمل عبئها المثقف قبل السياسي. فللمثقف اختيارات لا يحكمها التقدير الظرفي للأشياء والكائنات، ولا يستند إلى حكم مسبق لبلورة مواقفه والدفاع عنها. فإذا كان الفعل الإنساني “عرضة للالتباسات والغموض والتأويل، فإن وظيفة المثقف تكمن في الكشف عن هذه الالتباسات بالذات. إن واجب المثقف هو في المقام الأول انتقاد رفاقه”: يقدم لنا نعوم تشومسكي، العالم اللساني الشهير، حالة مثقف نادر الوجود في التاريخ. لقد وقف في وجه الشطط الأميركي بكل قواه، وفضح أساليبها في التدخل في شؤون الأفراد والجماعات والدول. ولم تمنعه يهوديته من الوقوف ضد إسرائيل دفاعاً عن حق الشعب الفلسطيني في استقلاله وبناء دولته.
وبعبارة أخرى، إن المثقف فاعل أخلاقي لا يتقيد بحالات انتماء زائل لهذا الموقف أو ذاك، ولا بحالات التصنيف “العفوي” ضمن أصل “عرقي” هو بالضرورة من باب الوهم المضلل، أو من باب التصنيف الثقافي المسبق الذي لا يمكن، رغم وجوده الفعلي، أن يحل محل كل القيم النبيلة التي أفرزتها الممارسة الإنسانية الممتدة عميقاً في التاريخ. لقد مات سقراط دفاعاً عن حق الإنسان في التفكير الحر، ورفض الفرار من سجنه لكي لا يشمت به أعداؤه أو يشككون في مبادئه”.
وعلى هذا الأساس، فإن ما يفصل بين السياسي والمثقف هو الفاصل بين “الولاء” وبين “الحقيقة”، فالولاء عند إيكو مقولة أخلاقية، أما الحقيقة فمن طبيعة نظرية. الأولى للسياسي (فهو يتحرك ضمن تراتبية السلطة أو تراتبية الحزب) أما الثانية فمن اختصاص المثقف (فهو لا يهتم سوى بالقيم التي تحمي الإنسان من الظلم والانتقاص من حريته وكرامته). ولا سبيل إلى الخلط بين ما يأتي من الولاء، وما تقود إليه الحقيقة. إنه الفاصل بين إكراهات السياسة واختيارات الثقافة.
كتاب “دروس في الأخلاق” ـ برأي بنكراد ـ “لا يقدم دروساً من باب “يجب...”، بل يستحضر تجارب التاريخ ويتأملها، إنه لا يمجد أخلاق الدين، ولا يحط منها، ولكنه يجعل الفرد مسؤولاً عن سلوكه”.