الأحد، 15 يناير 2012

أدب مبتذل ساد روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي




الكاتب والمترجم الاردني باسم الزعبي: أدب مبتذل ساد روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي
نضال القاسم
2012-01-09

ـ أهلاً بك، وأرجو في البداية أن نقرأ في هوية د.باسم الزعبي؟ وسأبدأ بالحديث عن علاقتك بالكلمة، وعن رحلتك مع الترجمة، وعن بداياتك القصصية، وعن المؤثرات التي شكلت وعيك وأسهمت في تكوين تجربتك الإبداعية؟
*قد تكون بداية علاقتي بالكلمة هي بداية الكلام، أو بداية فهم الكلام. الثقافة الشفوية مصدر أساسي في ثقافة أي فرد. تنتقل إليك مع بداية إدراكك للعالم المحيط بك، وتلقيك رسائله وأفكاره، ثم تأتي القراءة. تعلمت في المدرسة، أحببت كتب القراءة، أحببت القراءة، بدأت قراءتي المستقلة في عمر مبكر، وقد كنت في الصف السادس، عندما قرأت لأول مرة رواية ما زلت أجهل مؤلفها، لأنها كانت من دون غلاف، لكنها كانت رواية مترجمة وفيها أحداث ثورية وبطولات. توالت قراءاتي بعد ذلك، مما هو متاح في مكتبة أخوتي الفقيرة أصلا: أعداد من مجلة 'العربي' ومجلة 'هدي الإسلام' ( كانت تصدر عن وزارة الأوقاف الأردنية، وكان يحضرها والدي الذي يعمل في المحكمة الشرعية)، وأعداد من مجلة 'هنا لندن' التي تصدر عن هيئة الإذاعة البريطانية، كانت تصل أحد القضاة الشرعيين، وبعد أن يتصفحها يتبرع بها لوالدي لعلمه أن لديه أبناء يحبون القراءة، وبعض أعداد مجلة 'رسالة المعلم'، التي كانت تحضرها اختي المعلمة، وبعض الروايات المهترئة، وأهم من ذلك مخطوط الرواية التي كتبها أحد أبناء الجيران المغترب في ألمانيا.
لقد ترك وجود ذلك المخطوط في بيتنا، والهالة التي أحيط بها، تأثيرا كبيرا عليّ، على الرغم من أنني لم أقرأه إلا بعد تخرجي من الجامعة. إن أكثر ما أثار اهتمامي بذلك المخطوط هو أن يكون أحد الشباب، ومن أبناء الرمثا بالتحديد، قد أستطاع أن يكتب رواية، وكانت صفة الكاتب ذات هالة كبيرة لدينا في ذلك الوقت، أي أن الكتابة كانت مهنة لا يتنطع لها إلا الأشخاص المتميزون، ولم نكن نعرف في ذلك الوقت أي كاتب من مدينتنا، بل نكاد لا نعرف سوى بعض أسماء الكتاب العرب، مثل نجيب محفوظ، ويوسف السباعي، وإحسان عبد القدوس، وعبد الحليم عبدالله، وطه حسين، والمنفلوطي، وتوفيق الحكيم، والأجانب، من خلال ترجمات غالبا ما تكون تجارية، تعتمد التصرف بالعمل، واختصاره، مبقين على خيط الأحداث الرئيسية. وكان الكتّاب الروس مثل تولستوي، ودوستويفسكي- الذي كنا نستصعب لفظ اسمه - وتشيخوف، وغوركي، من أبرز الكتاب العالميين، وأكثرهم انتشارا في المكتبات، إضافة إلى الكاتب الإنكليزي تشارلز ديكنز، والفرنسي فكتور هيجو، وإميل زولا، وبلزاك وغيرهم. كانت روايات هؤلاء الكتاب المطبوعة على ورق رخيص، وذات أغلفة ملونة تحاكي الدعايات السينمائية، لافتة للنظر.
كانت أول زيارة لي لمكتبة المدرسة في الصف السادس الابتدائي، فقد كان معلم اللغة العربية هو مشرف المكتبة في نفس الوقت، وكانت المكتبة مجاورة لصفنا. عندما دخلتها أول مرة، وكنت الوحيد من أبناء صفي من يدخلها، مما أثار إعجاب مدرّسي، الذي شجعني على استعارة الكتب، وقرأت في تلك المرحلة بعض كتب الأطفال، من الحكايات العالمية، لكنها لم تشدني كثيرا، فقد كنت أميل للقصص الواقعية، وما أن اكتشفت كتابات محمود سيف الدين الإيراني، وعيسى الناعوري حتى اتجهت إلى قراءتهما، ثم توالت قراءاتي بعد ذلك.
كان لدي شغف باقتناء الكتاب أكثر من أي موضوع آخر يمكن أن يجذب شابا صغيرا في عمري في ذلك الوقت. فكنت أجمع مصروفي القليل، لأشتري كل شهر أو شهرين كتابا، ثم بدأت بالمشاركة بالمسابقات الثقافية، وفي فن الكتابة بالتحديد، من خلال مركز الشباب الحكومي، الذي كانت إدارته تحرص على تقديم الكتب كهدايا بدل الجوائز.
وهكذا بدأت قراءة القصة القصيرة من خلال المجلات قبل قراءة الأعمال الروائية، ويبدو أن هذا العامل، يفسر اتجاهي نحو كتابة القصة لا كتابة الرواية. وقد بدأت كتابة القصة في نهاية المرحلة الأساسية (الاعدادية في ذلك الوقت)، وقد حازت أول قصة كتبتها إعجاب مدرس اللغة العربية، الذي أثنى عليها، وأعطاها أعلى علامة كان يعطيها لموضوع التعبير، وكانت الأعلى بين العلامات المستحقة لبقية طلاب الصف. شجعني ذلك على الاستمرار بالكتابة، والترويج لفن القصة القصيرة (ولم يكن ذاك الفن معروفا كثيرا في مدرستنا في ذلك الحين)، بين أبناء جيلي مما شجع بعضهم على الكتابة، ومما دفع مدير مركز الشباب، المرحوم الاستاذ عبد الكريم الخطيب، إلى إجراء مسابقة كتابة القصة القصيرة سنويا. أما في المرحلة الثانوية، وبانتسابي لمركز الشباب، الذي كان يضم مكتبة متواضعة، لكنها تحوي كتباً كافية لتلبية حاجتي من القراءة، والأدبية منها بشكل خاص، كما أنه كان يضم صالة لقراءة الصحف والمجلات، وأذكر من المجلات التي كان يوفرها المركز: 'الهلال، المستقبل، طبيبك، العربي، الشباب'، إضافة إلى الصحف الأردنية اليومية التي كانت تصدر في بداية سبعينيات القرن الماضي مثل :'الرأي' و'الدستور'. وقد تعرفت من خلال مكتبة المركز على بعض الكتاب الأردنيين الشباب في ذلك الحين مثل فخري قعوار، وبدر عبد الحق.
لم يسهم أحد في تعليمي كتابة القصة بشكل مباشر، لكني تعلمت الكتابة من خلال القراءة، وكنت أقرأ كل ما يقع تحت يدي من القصص القصيرة، وكنت أجد نفسي بشكل تدريجي أميل إلى القصص الواقعية النقدية، أي التي تنتقد الواقع، ثم الذهنية، التي تتناول الأوضاع السياسية والاجتماعية من خلال الرموز، أو الدلالات..
لا شك أن الأدب الروسي كان متميزا، فقد وجدت في تشيخوف كنزا عظيما من أجل تذوق، وتعلم فن كتابة القصة القصيرة، وكذلك تولستوي، الذي قرأت بعض قصصه المترجمة والمنشورة في مجلة 'الهلال'، وقد كانت قصصا تربوية، وعظية، لكنها مكتوبة بحرفيّة عالية، وقرأت في ذلك الوقت لموباسان، وهمنغواي، وللكتّاب العرب أمثال نجيب محفوظ، يوسف إدريس، يوسف السباعي، يحيى حقي، وغيرهم.
لم يبق من كتاباتي من تلك المرحلة سوى قصة واحدة كانت قد فازت بمسابقة القصة القصيرة على مستوى مراكز الشباب عام 1975، وقد حازت المركز الثاني، وقد نشرتها في مجموعتي القصصية 'دم الكاتب'.
ـ إضافة الى أعمالكم الإبداعية وترجماتكم التي صدرت خلال السنوات الماضية، صدر لكم مؤخراً عن دار ورد الأردنية ترجمة مختارات من القصة الروسية المعاصرة بعنوان 'يتساقط الثلج هادئاً'، وما يميز هذه القصص المنتخبة هو أنها قد تُرجمت مباشرة عن اللغة الروسية، وأنها تمثل أجيالاً متعددة من الكتاب الرواد الذين أسهموا في نشأة هذا الفن في روسيا وفي العالم، ماذا تقول عن هذه المختارات، وما هي مشاريعك القادمة؟
*كانت هذه المجموعة هي المجموعة الرابعة التي ترجمتها عن اللغة الروسية، فقد سبق أن نشرت مجموعة مترجمة من الأدب الافريقي المعاصر، ترجمتها عن اللغة الروسية، ومجموعة من القصص الروسية الساخرة، بعنوان شخصية مشرقة، ومجموعة للكاتب الروسي الساخر أركادي أفيرتشينكو ( 1881-1925) بعنوان 'ذات مساء'. في البداية كنت شغوفا بالأدب الساخر، ورائده في هذا المجال أنطون تشيخوف، الذي يعتبر أحد أعمدة فن القصة العالميين، والكتابة الساخرة كتابة متميزة، ويمتاز الأدباء الروس بروح السخرية بشكل عام، وكانت السخرية إحدى أدوات النقد للوضع القائم، فبرز الكاتب العظيم غوغول، الذي قال عنه دوستويفسكي لاحقا أن جميع الكتاب الروس خرجوا من 'معطفه'، والمعطف كان عنوان إحدى قصصه الساخرة التي ينتقد فيها النظام السياسي والإداري في روسيا، وخرج كتاب مثل سالتيكوف شيدرين، وكوبرين، وتيفي، وإيلف وبيتروف، وأركادي أفيرتشينكو، وغيرهم. ولم يفارقني هذا الشغف في اختياراتي الأخرى، فكان عدد من القصص المعاصرة التي ترجمتها يندرج ضمن فن الكتابة الساخرة. وكنت دأبت على ترجمة نصوص أختارها من الكتب، أو من مواقع خاصة على الشبكة العنكبوتية، تمثل فن القصة القصيرة في روسيا المعاصرة، ثم جمعتها بين دفتي كتاب واحد، أي أن المجموعة لم تكن من كتاب واحد. لقد كان هدفي من وراء هذه الترجمة تتبع الاتجاهات الحديثة في فن القصة القصيرة في روسيا بعد التحولات الكبرى التي شهدتها، اثر انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي، الذي تغيّرت مع انهياره جملة من الاتجاهات الأدبية والقيميّة، والنظريات الأدبية والفنية. وفعلا، فقد انتشر، لفترة واكبت سنوات التحول، أدب مبتذل كان يحاكي الاتجاهات المبتذلة في الغرب، متمثلا بأدب الإباحية الجنسية والجريمة والعنف والفضائح السياسية والاجتماعية والغرائبية الفارغة...
لكن ومع ذلك، عادت الاتجاهات الواقعية والنقدية والفنية الأخرى لتشق طريقها وسط ذلك الكم الهائل من الأدب المبتذل، لتعود هي الممثل، والامتداد الحقيقي للأدب الروسي العظيم.

ـ أنت قاص ومترجم، وتكتب أيضاً المقال الفكري والأدبي، إضافة الى جهودك البحثية، من الذي بدأ قبل الآخر لديك، القصة أم الترجمة، وهل لأحدهما من أثر مباشر على الآخر، وهذا يقودني إلى التساؤل حول ثقافة القاص وثقافة المترجم، وبرأيك، كيف يمكن لكل هذه التركيبة المتشعبة أن تنسجم في شخص واحد، وإلى أي خانة من هذه الخانات تريد أن تنتسب؟ وهل أنت راضٍ عن مسيرتك حتى الآن؟
*لقد بدأت بكتابة القصة القصيرة بالتأكيد. فكما أسلفت، بدأت الكتابة منذ سني الدراسة المدرسية، ونشرت أول قصة لي عام 1975، إلا أنني توقفت عن الكتابة طوال سنوات الدراسة الجامعية في روسيا. لم أخطط يوما أن أكون مترجما، وقد بدأت بترجمة الدراسات الفلسفية ونشرها في المجلات الأردنية بعد عودتي من دراسة الدكتوراه عام 1990، ثم وجدت نقصا بالاهتمام بالترجمة عن اللغة الروسية في الأردن، فاقتحمت هذا المجال، ولأن إمكانيات النشر في الأردن محدودة، وتخضع لمحدودية المساحات المخصصة في الملاحق الثقافية، ولمزاجية المشرفين على هذه الملاحق، أو على المجلات، في بعض الأحيان، لم تشكل عاملا مشجعا لتوسيع نطاق الترجمة، فأنت تعلم أن الترجمة عملية تحتاج إلى جهد ووقت كبيرين، ولا يوجد من يقوم بالترجمة من دون توفر أو توفير الدعم المادي لجهده.
لا شك أن هناك تأثيرا متبادلا بين الكاتب والمترجم، فالكاتب المترجم يتأثر ويتعلم مما يقرأه من أدب آخر، وفي الوقت ذاته يضفي على ما يترجمه نفحة من روحه، وجزءا من خبرته الكتابية، ومن هنا غالبا ما تكون ترجمات الكتاب للآداب الأجنبية أجود، وأقرب للنصوص الأصلية، وتحفظ للنصوص روحها الأدبية.
يمكن القول إنني أنتسب إلى فن الكتابة والترجمة بنفس المستوى، لدرجة أن جهدي يكاد أن يتوزع مناصفة بين المجالين، فإصداراتي في القصة القصيرة تقارب إصداراتي في الترجمة. كنت وما زلت أتمنى لو أنني أستطيع أن أتفرغ للترجمة، وأنقل أعمالا أكثر من كنوز الأدب الروسي إلى اللغة العربية لاطلاع القارئ العربي، فمما لا شك فيه أن الاطلاع على آداب الشعوب الأخرى يحقق فوائد جمة، منها تحقيق التعارف والتواصل بين الشعوب، التعلم من فنون وآداب وثقافات الشعوب الأخرى، بناء العلاقات التي تخدم القضايا الوطنية...
أتمنى لو وجدت هناك مؤسسة تختص بالترجمة، والأدبية منها بشكل خاص، وأن أستطيع التفرغ للترجمة كحرفة، لكن للأسف لا يتوفر لدينا شيء من هذا القبيل، وتبقى الجهود التي نبذلها، تندرج ضمن الجهود الفردية.
- يقال إن الترجمة الناجحة لا تتوقف عند حدود إتقان المترجم للغة أجنبية، بل تتعداها إلى الإحاطة بتاريخ المؤلف ومناخ أعماله... فما هو رأيك؟ وكيف تحدد مناخ أعمالك التي ترغب في ترجمتها للعربية، وهل هناك من خطة مسبقة موضوعة لديكم ترغبون بتحقيقها والوصول إليها؟ وهل تهتم بالشكل أكثر أم بالمضمون؟ وما هي الإضافة النوعية التي حققتها في مجال الترجمة الأدبية من وجهة نظرك؟ وكيف تختصر معاناتك مع الترجمة من اللغة الروسية إلى العربية ومن العربية إلى الروسية؟
*لقد عشت في روسيا عشر سنوات، ساعدني هذا العامل على فهم أجواء النصوص التي أترجمها، إضافة إلى أنني درست الأدب الروسي كمتطلبات في دراستي في كلية الآداب تخصص الصحافة، وتعرفت على كثير من سير حياة كبار الكتاب الروس منذ نشأة الأدب الروسي، وحتى أواسط ثمانينيات القرن المنصرم، كما أنني تجولت في أرجاء متعددة من روسيا، وزرت العديد من المتاحف ودور المسرح والمعارض، ودخلت البيوت سواء في القرى أو في المدن، زرت أماكن متعددة، مصانع ومزارع، حضرت احتفالاتهم ومناسباتهم... تعرفت على الطبيعة الخلابة في روسيا، بدءا من الليالي البيض في ليننغراد، مرورا بسهب الدون الشاسعة التي كتب عنها الكاتب الكبير شولوخوف الحائز جائزة نوبل روايته المشهورة 'الدون الهادئ'، وصولا إلى جبال القوقاز، التي وجدت حضورا لها في روايات ليمنتوف وتولستوي...
ما زالت القصص الروسية تتزين بوصف الطبيعة، أو بالرسم بشكل عام. فما زال الكتاب يصفون المكان بتفاصيله، والأشخاص، وأحوالهم النفسية، كما لو أنهم يواصلون أسلوب كتابهم الكبار مثل تشيخوف وتولستوي ودوستويفسكي.
لا شك في أنني في اختياراتي للأعمال التي أقوم بترجمتها أهتم بالشكل والمضمون معا، فهما لا ينفصلان لدي، سواء في كتاباتي الشخصية، أو في ترجماتي.
لا أدعي أنني قدمت إضافات نوعية، أنا أترجم ما أتذوقه، وأقتنع به، وأحب أن أوصله للقارئ، لكني بالتأكيد لا أكرّر الترجمة، فأنا ترجمت لكتّاب لا يعرفهم القارئ العربي بشكل عام مثل سالتيكوف شيدرين، وتيفي، وأركادي أفيرتشينكو، ونصوصا غير معروفة للقارئ العربي لكتاب مثل أنطون تشيخوف، وأخيه الكسندر، وكوبرين، ونابوكوف، وشكوشين، ومعظم الكتاب المعاصرين الذين ترجمت لهم في مجموعة 'الثلج يتساقط هادئا'. إذاً رسالتي تتلخص بتعريف القارئ بما هو مجهول في الأدب الروسي وما هو جديد.
- يقولون إن الشعر مادة غير قابلة للترجمة لأنها تفقده كثيراً من وهجه وبريقه، هل هذا صحيح، وكيف ترى ذلك كمبدع ومترجم في نفس الوقت؟ وإلى أي حد استطاع المترجم العربي أن ينقل الشعر الأجنبي بدقة وأمانة؟
*إن ترجمة الشعر قد تكون أصعب بكثير من ترجمة القصة، فلا يكفي في الشعر أن تنقل المعنى، لكن الأهم هو أن تحافظ على واحدة من أهم شروط كتابة الشعر وهي توفر الموسيقى، إذا ما أردنا تجاوز التعريف القديم والناقص للشعر على أنه كلام موزون ومقفّى، وحتى بتجاوزنا خاصية الوزن، لكنا لا نستطيع إلغاءها، رغم ظهور أشكال جديدة من الشعر، لا تعتمد الوزن الشعري، لكنها لا تتخلى عما يسمى بموسيقى الشعر، ويقصدون الموسيقى الداخلية، إذا، في هذه الحالة لا بد للمترجم من مراعاة الخصائص الفنية لبناء الجملة الشعرية، والبيت، وبناء القصيدة والموسيقى، بحيث يحافظ على روح القصيدة، ولا يغرّبها. فالمترجم الذي يستطيع أن يقوم بهذه المهام بجدارة هو المترجم - الشاعر ، فنحن نجد أن أفضل ترجمات شعرية قام بها شعراء، مثل ترجمة رباعيات الخيام التي ترجمها الصافي النجفي، وترجمها أحمد رامي، وترجمها عرار. أو ترجمات شكسبير، التي قدمها خليل مطران أو جبرا إبراهيم جبرا، أو ترجمة بوشكين التي قدمها حسب الشيخ جعفر، وغيرها من الأمثلة.
طبعا هناك الترجمات التي تراعي نقل المعنى، أكثر من مرعاتها لنقل الوزن أو الموسيقى، هي الأكثر انتشارا، ولا شك أن مثل هذه الترجمة تفقد النص الشعري بعضا من جمالياته، بهذا القدر أو ذاك، وتوجد بعض الترجمات التي حوّلت النص الشعري الموزون إلى نص نثري لا يخلو من موسيقى الشعر، لكن جميع هذه الجهود ساهمت بتعريف القارئ العربي بشعر وشعراء الشعوب الأخرى، ولا شك في أن الشعر المترجم، وما رافقه من ترجمات للدراسات النقدية والفنية، والنظريات الأدبية، تركت تأثيرها على الشعر العربي، فالحركات التجديدية في الشعر العربي جاءت بالأساس بتأثير الاتجاهات الشعرية في أوروبا.
- من خلال مسيرتكم الطويلة مع الترجمة من اللغة الروسية، ومعايشتكم للواقع الغربي من داخله، هل ترون أن الأدب العربي مشحون بالسياسة، وهل صحيح أن الهبوط السياسي العربي جرَّ معه الأدب وأنواع الفنون الإبداعية الأخرى، بمعنى آخر، هل صحيح أن الوطن العربي يعيش حالة ذبول في الإبداع الثقافي؟ وما هي حدود العلاقة بين الإبداع والحرية من وجهة نظرك؟
*لا شك أن هناك علاقة جدلية تحكم تطور الأدب علاقتة بالواقع، فالأدب، الذي هو مرآة الواقع، يكون تطوره أو تخلفه انعكاسا للواقع الاجتماعي، رغم أن هذا الانعكاس لا يكون ميكانيكيا. إن الأدب العربي مشحون بالسياسة، هذا صحيح، فالصراع السياسي في المنطقة لم يهدأ طوال القرن العشرين، وحتى يومنا هذا، من صراع من أجل تثبيت الهوية القومية، إلى صراع مع الاستعمار، إلى صراع مع الصهيونية ووليدتها التي اغتصبت قلب العالم العربي، إلى صراع مع الاستبداد... كل هذا الصراع لا بد أن يترك أثرا واضحا في الأدب العربي المعاصر بكافة صنوفه، إلا أن الشأن السياسي لم يكن الموضوع الوحيد الحاضر في هذا الأدب، فهناك القضايا الاجتماعية، أيضا كان لها حضورها، ولا تستثنى القضايا الفلسفية والفكرية. لا توجد مشكلة على هذا الصعيد، بمعنى لا يشكل هذا الموضوع عائقا أمام تشكل أدب راق، فالاهتمام بالمضامين لا يلغي، ولا يقلل من أهمية الاهتمام بالشكل الفني. المضامين لا تشكّل عائقا أم تطور الفن، كما أنها وحدها غير كافية لخلق فن متطور.هناك فنانون حملوا قضايا شعوبهم السياسية والاجتماعية إلى العالمية، لوركا، وبابلو نيرودا، وناظم حكمت، ومحمود درويش، ونجيب محفوظ وغيرهم. حملوها ليس فقط لأنهم كانوا يتبنون قضايا إنسانية كبيرة، بل لأن أدبهم كان جيدا. وهذا يؤكد أن الأدب الجيد هو ذاك الأدب الذي لا ينفصل عن الواقع، ويعبر عن الهم الإنساني، ويكون نصيرا للإنسان ولقضاياه العادلة، ورافضا للظلم والاستبداد، الأدب الذي يرفع من شأن القيم الإنسانية، ويرفض القيم التي تحط من قيمة الإنسان.
بالمقابل، فأنا لا أختلف مع القول بأن وجود الاستبداد الثقافي والسياسي والفكري قد يعيق تقدم الأدب والفن، لكنه لا يستطيع أن يلغيهما، فالمبدع لن يعدم الوسيلة للتعبير عن نفسه، وممارسة رسالته، في النقد والتغيير، وهو سيختار شكل التعبير المناسب لكل ظرف. في روسيا القيصرية انتشر أدب لجأ إلى الرمز للتعبير عن الموقف، وقد شكل ذلك الأدب اتجاها كاملا سمي بأدب مرحلة الثورة الديمقراطية في القرن التاسع عشر، وقد عرف أدبنا العربي الحديث نقدا شديدا، مباشرا أحيانا، وغير مباشر في أحايين أخرى، للوضع السياسي والاجتماعي المتردي، فجرى انتقاد الاستبداد في أنظمة الحكم، وكانت الرسائل تصل إلى القارئ من دون صعوبة، وأعتقد جازما، بأن الأدب الناقد كان له تأثير غير مباشر في ما نشهده في أيامنا هذه من ثورات عربية ضد أنظمة الاستبداد.
- دكتور باسم، بماذا تحلم، وعلى أي جبهة تقاتل وبصراحة، ما مدى تفاعلك مع قضايا أمتك في وضعها الراهن؟ وهل هنالك من محاولات جادة لديك لنقل تجارب من الأدب العربي الى اللغة الروسية لكي تسهم في تعريف الغرب على واقعنا وتطلعاتنا وقضايانا العادلة؟ بمعنى آخر، ما هو أثر أدبك خارج الحدود؟ وهل تعتقد أنك قمت بواجبك في هذا المجال حتى الآن؟ وماذا عن تصورك للمستقبل؟
*أحلم بتحرر الشعوب من الاستبداد، وبنشوء أنظمة تستطيع أن تهيئ الظروف والمناخات المناسبة لتفجر طاقات الشباب، وأن تأخذ الأمة العربية مكانتها اللائقة في التاريخ والحضارة بين بقية الأمم، أحلم بدولة الوحدة العربية - دولة العدالة والتنمية وحقوق الإنسان، الدولة التي ستعيد لأبنائها عزتهم وكرامتهم.
نسعى من خلال رابطة الكتاب الأردنيين لإيجاد شراكة مع اتحاد الكتاب الروس لتبادل أعمال الترجمة، مثل هذا المشروع يحتاج إلى دعم، وتسعى الرابطة إلى إيجاد هذا الدعم. المشروع في إطار الاتصالات، وإبداء الرغبات والنوايا، وأعتقد بأننا قادرون على إنجاز شيء في هذا الاتجاه، ويمكن البناء عليه لاحقا. وأنا أدعو كافة مؤسساتنا الثقافية والتعليمية إلى اتباع نفس الوسيلة، وتوثيق العلاقات الثقافية مع الخارج، والاهتمام بالترجمة كجزء مهم من عمليات التبادل الثقافي، لأن الكتاب المترجم يظل وثيقة مهمة يمكن الرجوع إليها في أي وقت للتعرف على حياة وثقافة الآخر، وأسلوب تفكيره، وبالتالي تكون أداة فاعلة لزرع الثقة بين الشعوب والتعرف على الروابط المشتركة.
لقد عملت في مجال الترجمة بما أملكه من إمكانيات، لكن الجهود الفردية مهما كبرت لا يمكنها أن تعوض الجهود المؤسسيّة. نحن بحاجة إلى توفر الفهم لأهمية الترجمة، والإرادة الكافية لدى المسؤول ليأخذ على عاتقه تبني مشروع وطني في هذا المجال، وتقديم الدعم اللازم له.
- يعاني العالم العربي من ضعف الصلة بين الأدب وقرائه.. بين الفن ومتذوقيه.. بين الثقافة العربية وأبنائها...من خلال اطلاعكم على الأدب الروسي، ما مدى استفحال هذه الظاهرة في روسيا ؟
*قد يختلف الشعب الروسي عن الشعوب العربية في علاقته بالقراءة والثقافة بشكل عام، من المعروف أن الثورة الاشتراكية في روسيا، والنظام السوفييتي الذي حكم روسيا طوال سبعين عاما، قد أوليا اهتماما خاصا بالتعليم، ونشر الثقافة، فالشعب الروسي محب للقراءة، محب للأدب والفن، والمرافق الثقافية منتشرة في كل أرجاء روسيا، وتلبي حاجة الناس الروحية من المنتجات الفنيّة والأدبيّة، ولقد رفدت الحضارة الروسية العالم بنخبة كبيرة من الكتاب والفنانين في مختلف التخصصات. أنت هناك لا تستغرب أن يحمل معظم الناس كتبا في حقائبهم، يقرأونها أثناء تنقلهم الطويل في وسائل المواصلات، أو أثناء انتظارهم لأي شيء. كما أنك لا تستغرب أن تجد واحدا من بين كل خمسة أشخاص يمارس لونا من الفن، عزف، غناء، رقص، رسم...الخ. ومن خلال متابعاتي، فقد وجدت أن الشعب الروسي لا يستطيع أن يتخلى عن هذه المكتسبات، التي يعتبرها ميزة خاصة به، رغم دخول البلاد في نمط الحياة الرأسمالي الاستهلاكي المادي، الذي يجعل من كل قيم الحياة قيما استهلاكية مادية.
- إذا انتقلنا للحديث عن الواقع النقدي في الأردن، كيف ترى واقع الحال، وهل تأخذ النقد بعين الاعتبار، وكيف تفهم العلاقة بين النقد والإبداع، وهل أنصفك النقد؟
*النقد في الأردن لم يستطع مواكبة الإبداع، وظل أسير العلاقات الشخصية والدعاية الإعلامية في أغلب الأحيان، فالكاتب الذي لا يملك رصيدا من العلاقات الشخصية مع النقاد، ولا يرتبط معهم بمصالح شخصية، ولا يهتم بالترويج لنفسه، فإن أعماله تظل بعيدة عن التناول النقدي، إلا أن المؤسسات الأكاديمية قامت بخطوة إيجابية في هذا المجال، إذ تدفع طلبة الدرسات العليا لتناول الأدب المحلي في أطروحاتهم الأكاديمية، الامر الذي يدفع بعض الدارسين الجادين منهم لمواصلة الاهتمام بدراسة الأدب الأردني.
لم تحض كتاباتي بدراسات نقدية حقيقية، رغم تقديم أحد طلبة الدراسات العليا أطروحة ماجستير حول كتاباتي القصصية، وبعض المقالات النقدية التي كتبها نقاد معروفون في الصحف والمجلات الأردنية، فأنا غير راض عن الاهتمام النقدي بكتاباتي وترجماتي.
ـ هناك حالة من الوهن الذي تعيشه ثقافتنا اليوم بالمقارنة مع مرحلة الستينيات والسبعينيات، هل صحيح أن الهبوط السياسي العربي قد جرَّ معه الأدب وأنواع الفنون الإبداعية الأخرى، بمعنى آخر، هل صحيح أن الوطن العربي يعيش حالة ذبول في الإبداع الثقافي؟ وما مدى إقبال القارئ العربي على الأعمال المترجمة؟
*قد لا أتفق معك في أننا نعيش حالة وهن ثقافي على المستوى العربي، قد تكون الظروف السياسية، من صراع ساخن مع الاستعمار والصهيونية في مرحلة الستينيات والسبعينيات، والمناخ الثقافي السائد في تلك الحقبة، مناخ الحرب الباردة، والصراع الأيديولوجي الذي امتد إلى الأدب والفن، جعل الأدب والفن في الواجهة، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تبني الأنظمة والأحزاب الأيديولوجية للأدب والفن، انطلاقا من مبدأ تسخيرهما في المعركة القائمة بينهم وبين الاستعمار والقوى الاجتماعية المحلية المتحالفة معه. أما في المرحلة اللاحقة فقد انحسر الاهتمام الأيديولوجي بالثقافة، وانحسرت الأنظمة والأحزاب الأيديولوجية، ذاتها، لكن الثقافة لم تنحسر، بل تراجعت إلى الظل. فلا يمكن للثقافة أن تختفي، ما دام في الشعب نبض، فنبض الشعب هو تعبيره الثقافي.
وأعتقد أن المرحلة الحالية التي تمر بها الشعوب العربية، سوف تعيد للثقافة مكانتها في الواجهة، فثورات الربيع العربية فجّرت وسوف تفجر الطاقات لدى الجماهير، وبالتالي سوف نشهد زخما في الإبداع، والانتاج الثقافي.
- كيف تقرأون فوز كل من الدكتور محمد شاهين والدكتور محمد عصفور بجائزة الدولة التقديرية في مجال الترجمة للعام 2011 وهل ترون ان هذه الخطوة يمكن أن تساعد في وضع خارطة طريق لملف الترجمة؟ وهل هناك من خطة موضوعة لدى وزارة الثقافة بشأن الترجمة في هذا الخصوص؟
*لا شك أن تقديم جائزة للترجمة، في مستوى جائزة الدولة التقديرية، يعبر عن أهمية الموضوع كحقل ثقافي، وآمل أن يعبر تعبيرا حقيقيا عن اهتمام الدولة بهذا الحقل. لم ألمس لغاية الآن وجود خطة مدروسة في مجال الترجمة. طوال السنوات السابقة ظل الموضوع، وما زال، معتمدا على المبادرة الفردية. وإذا ما وضع في خطط الوزارة فقد ظل عنوانا تحته بياض.
يوجد في الأردن عدد لا بأس به من المترجمين، يترجمون من عدد من اللغات، منها الإنكليزية والفرنسية والألمانية والروسية والاسبانية والفارسية...ويمكنهم النهوض بأعباء مشروع وطني للترجمة، فيما لو توفر الدعم المادي، لكن للأسف، لا يحدث شيء ذو قيمة في هذا الاتجاه.