السبت، 9 فبراير 2013

عملية الترجمة

لكل نشاط ترجمي نقوم به أهداف محددة لعل من أهمها أن مثل هذا النشاط يشكل أداة تواصل ثنائية اللغة عبر الثقافات لخدمة بني البشر. وقد تطورت الترجمة في العقود القليلة الماضية بسبب تنامي التجارة الدولية وزيادة حركة الهجرة والعولمة والأعتراف بالأقليات اللغوية فضلا عن توسع وسائل الأعلام والتكنولوجيا. لهذا السبب بدأ المترجم يؤدي دورا مهما بصفته ناقل ثقافة وأفكار ثنائي اللغة أو متعدد اللغات عبر الثقافات المختلفة يحفزه سعيه لترجمة المفاهيم والكلام في مختلف النصوص بأكبر قدر من المصداقية والأمانة والدقة.
ويتفق معظم منظّري الترجمة على أن عملية الترجمة تتمحور حول نقل نص ما من لغة أجنبية (أو ثانية) الى اللغة الأم غير أن متطلبات السوق تقتضي على نحو متزايد بأن يقوم المترجمون بنقل النصوص الى اللغة الهدف TL التي هي ليست لغتهم الأم أنما لغة أجنبية. ومثل هذه العملية يطلق عليها بيتر نيومارك Peter Newmark الترجمة الخدمية service translation موضحا (1995) :(أفترض أنكم أيها القراء تتعلمون الترجمة من اللغات الأجنبية الى لغاتكم الأم لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تتمكنون من خلالها من أنجاز ترجمة طبيعية ودقيقة وتحقيق أكبر قدر ممكن من التأثير. غير أن معظم المترجمين يقومون بعملية الترجمة من لغاتهم الى اللغات الأخرى).
ولابد أن يكون هناك ثمة منهج ما للتعاطي مع نص اللغة الأصلية سواء أختار المترجم النموذج التقليدي الذي يتخذ من المؤلف محور أهتمامه author-centered أو النموذج البنيوي الذي يهتم بالنص text-centered أو النموذج المعرفي الذي يهتم بالقاريء reader-centered . أن مثل هذه الحقيقة تجعل من عملية الترجمة مهمة صعبة للغاية تفضي في بعض الأحيان الى نتاج عادي لابد من العمل على تنقيحه وتحريره قبل تسليمه الى الزبون.
والمترجمون العاديون الذين تعوزهم الخبرة ربما ينتجون ترجمات خاطئة ربما تتسبب في نتائج كارثية يتعذر أصلاحها!ولاريب أن الترجمة الضعيفة لاتؤدي الى أثارة الضحك أو حصول بعض الأرباك فحسب أنما يمكن أن تكون قضية حياة أو موت. من هنا تبرز أهمية تدريب المترجمين ليس في مجال أكتساب اللغات والتمكن منها وفي أستراتيجيات الترجمة وأجراءاتها فحسب أنما في بعض الحقول المعرفية المحددة وكذلك في أخلاقيات الترجمة الأحترافية.
وأذا كانت عملية الترجمة تمثل عملية خطابية تتوسط بين اللغة والفكر (أنظر ديلسل Delisle 1980) فأن علينا أن نتقبل أيضا حقيقة أن المترجمين يواجهون عقبات متنوعة وكثيرة جدا في ضوء ممارسة المترجمين فنا ومهارة. في هذا السياق يوضح ديلسل (1981) بأن الترجمة عمل شاق و (مهلك) يضعك في بعض الأحيان في حالة يأس الا أنه يشكل في الوقت ذاته عملا أساسيا يعمل على أثراء اللغة ويتطلب الأمانة والتواضع.
وكثيرا ماتواجهنا الكثير من الأشواك المؤذية أثناء ترجمة النصوص حيث يتعين على المترجمين أن يكونوا على بينة حول هذا الأمر. وتتصل المشكة الأولى بعمليتي القراءة والقدرة على الأستيعاب أثناء التعامل مع اللغة المصدر حيث تأخذ غالبية الصعوبات الترجمية طابعا دلاليا وثقافيا فضلا عن التعبيرات النمطية والمعيارية والتعبيرات الجديدة التي تضاف الى اللغة والأقوال المأثورة والمصطلحات والأمثلة والنكات والتوريات وغير ذلك. ويتعين على المرء أن يتبنى موقفا حذرا للغاية حيال مثل تلك المفردات أو التعبيرات بهدف تحاشي التدخل أو سوء الأستخدام اللغوي (أنظر كوسمول Kussmaul 1995). وكثيرا مايواجه المترجمون معضلة التعبيرات التي لايوجد مايقابلها في لغتنا حيث لاتعيننا أفضل القواميس أوالخبراء في الحقل المعني أو أحد متحدثي اللغة الأصلية في أيجاد الحلول الرامية الى التوصل الى المعنى الدقيق المطلوب. علينا في هذا السياق أن نضع في بالنا أن من أعظم الفضائل التي يتمتع بها المترجم الجيد ماأسميته ب (الحدس المتنبه للسياقات اللغوية) أي المقدرة على التوصل الى أقرب معنى للعنصر الذي ليس له مقابل في السياق.
وبصرف النظر عن الصعوبات التي تشوب عملية الترجمة لابد أن تتوجه الأجراءات صوب جوهر الرسالة والأمانة لمعنى نص اللغة الأصلية الذي تتم ترجمته الى اللغة الهدف. ويشير كل من نايدا وتابر Nida and Taber (1974) الى أن عملية الترجمة تتضمن التوصل ألى أقرب مكافيء لفكرة النص الأصلي في اللغة الهدف أبتداء بالجانب الدلالي ومن ثم الأنتقال الى الجانب الأسلوبي. أن جودة الترجمة تعتمد كثيرا على جودة المترجم وتمكنه أي على معرفته ومهاراته وتدريبه وخلفيته الثقافية وخبرته وحتى على مزاجه! ويبرز نيومارك (1995) بعض الصفات الأساسية التي ينبغي أن يتحلى بها المترجم المقتدر وهي: (1) القدرة الأستيعابية لدى القراءة باللغة الأجنبية ؛ (2) المعرفة بالموضوع الذي يترجم فيه؛ (3) الحساسية اللغوية بكلا اللغتين (الأم والأجنبية)؛ (4) المقدرة المتميزة أثناء الكتابة باللغة الأجنبية بشكل ينم عن البراعة والوضوح والأقتصاد اللغوي والتمكن.
من جانبه يشير ميرسيدس تريكاس Mercedes Tricas الى الحدس أو الحس العام بأعتباره الأكثر ألفة من بين الحواس الأخرى أي العمل على أستثمار تلك الحاسة السادسة من خلال الجمع بين الذكاء والحساسية والحدس لكون مثل هذه الظاهرة تؤدي الى افضل النتائج أذا تم التعاطي معها بحذر وروية. يقول تريكاس (1995) :(تتسم عملية النقل بكونها تمثل آلية صعبة ومعقدة يتعين على المترجم في ضوئها أن يستثمر كل قدراته الفكرية وبديهته ومهاراته).
وبصرف النظر عن الجوانب التي تم التطرق اليها آنفا نرى من المناسب التأكيد على ضرورة التحلي بمعرفة لغوية سليمة بكل من اللغة الأصل واللغة الهدف لأن ذلك يشكل حالة جوهرية رغم أنها ليست الحالة الوحيدة للشروع بخوض غمار عملية الترجمة الأحترافية. على أن الأحاطة باللغات والتمكن من اللغة الأصل واللغة الهدف لايكفيان لتأهيل مترجم ناجح.
من حانب آخر لابد أن ينظر المترجم الى عملية أيجاد الحلول للمعضلات الناشئة أثناء الترجمة بأعتبارها عملية متواصلة مثل ترجمة الجوانب التي تصعب على الترجمة لغويا وثقافيا والقدرة على التعاطي مع الخسائر والمكاسب وأيجاد الحلول لجوانب الغموض المتعلقة بالمفردات وغير ذلك من خلال تبني آليات مختلفة منها على سبيل المثال التعويض والأقتراض والملاحظات التوضيحية والتعديل والتكافؤ اللغوي واعادة الصياغة وأعتماد القياسات analogies وغير ذلك.
ولابد أن يعرف المترجمون أن المعنى لاينتقل من خلال المفردات فحسب فترجمة النصوص التي تضم مجموعة مصطلحات علم أو فن ما والأرقام والجداول والرسوم البيانية والتعبيرات المعيارية والألفاظ الأوائلية acronyms والألفاظ المستخدمة في الكتابة metonyms وأسماء الأماكن في لغة ما toponyms وغير ذلك مسألة لابد أن يأخذها المترجمون بعين الأعتبار. كما ينبغي على المترجم أن يعمد الى تحديد بعض المنطلقات الجوهرية قبل الأنتقال الى ترجمة نص ما مثل مؤلف ذلك النص وهدف النص والقراء والمعيار الذي يتبناه والذي يقتضي تحديد المؤلف والفكرة وتصنيفهما ونوع الخطاب والمترجم والقراء.
وفيما يعلق بأجراءات الترجمة واستراتيجياتها يتعين على المترجم أن يقوم بعملية أختيار متواصلة في كل مقطع كتابي أو جملة أو وحدة ترجمية بهدف تحديد أهميتها لنقل الأفكار في النص الذي تتم ترجمته. وهذا يعني العمل على تبني أكثر الأستراتيجيات والأساليب مناسبة التي تتناغم مع متطلبات النص وليس تبني أسلوب ما والدأب على أستخدامه حتى النهاية. ويتعين على المترجم أيضا أن يراعي الى حد كبير الألتزام بجوهر الترجمة ، فيما يتعلق بالمعنى واللهجة والأسلوب وغير ذلك ، ونسق النص الأصلي أي شكله من حيث المصادر والمقاطع الكتابية وترك الفراغات اللازمة عند بداية كل مقطع كتابي والأعمدة والجداول وغيرها.
من ناحية أخرى يقول كثيرون أن الترجمة الآلية machine translation (MT) قد ساعدت على حل مشاكل الترجمة وهذا كلام مغالى فيه كثيرا فالعارفين ببرمجيات الترجمة يعلمون مدى الأختلاف الهائل بين النص الذي تترجمه الآلة والنص الذي يترجمه الأنسان لأن المترجم من البشر يلجأ الى ذكائه وأبداعه وتطلعاته للمعرفة وبديهته وأصالته وتفكيره وحذقه وغيرها في حل مشاكل الترجمة التي تواجهه أما الماكنة فليست لديها القدرة على التمييز أو الأدراك رغم كل (التغذية) التي تتلقاها. من هنا تبرز أهمية أخضاع المترجمين للتدريب.
بقلم:هاشم كاطع لازم-12-01-2013| (صوت العراق)
ترجمة: هاشم كاطع لازم / أستاذ مساعد – جامعة البصرة – كلية الآداب hashim_lazim@yahoo.co
المصدر

ليست هناك تعليقات: