الأربعاء، 22 سبتمبر 2010

مفهوم الأمانة في الترجمة

مفهوم "الأمانة" في الترجمة ـ
المصطفى مويقن

"ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليه، حتى يكون فيهما سواء وغاية" الجاحظ، كتاب الحيوان.
ظهرت اللغة مع الإنسان كحاجة للتواصل بين بني البشر. وبتعدد التجمعات البشرية، وتشكل الأقليات تعددت اللغات. فكانت الحاجة إلى التواصل، هذه المرة، موجبة لميلاد الترجمة. والترجمة كممارسة إنسانية عالمية، قديمة قدم اللغة والكتابة. غير الترجمة أخذت شكلها الحديث منذ عصر النهضة، إذ أصبحت ضرورية لقيام أي نوع من التواصل. وهي تمارس تحت أربعة أشكال أساسية:
-الترجمة الكتابية Traduction écrite
-الترجمة الشفهية لنص مكتوب Traduction orale d'un texte écrit
-الترجمة الفورية Interprétation simultanée
-الترجمة اللاحقة Interprétation consécutive
إضافة إلى هذا، هناك أنواع عديدة للترجمة تختلف وظائفها بنسب متفاوتة. لقد أضحت الترجمة ضرورية لجميع مجالات الحياة الاجتماعية (تقنية-علمية-اقتصادية…).
غير أن السؤال الجوهري، الذي شغل المترجمين على مر العصور والذي يطرح اليوم بحدة حول علاقة النص المصدر (الأصل) بالترجمة، هو: إلى اي حد تكون الترجمة وفية وأمينة للنص الأصل؟
لقد طرحت مسألة الأمانة للنص المصدر على مر العصور التاريخية، فقد شكلت مفهوما مفتاحا للمشتغلين بنظرية الترجمة. وتتأرجح الأجوبة بين الاعتناء بالأشكال اللسانية للنص المصدر وبين التكيف الحر مع النص. لقد بقي مفهوم الأمانة ضبابيا: فبالنسبة للبعض تكون الترجمة أمينة للنص عندما تحترم المحتوى العام للنص المصدر، وبالنسبة للبعض الآخر فالأمانة للنص هي الترجمة الحرفية، ترجمة النص كلمة كلمة.
لكن قبل الخوض في مسألة أمانة الترجمة للمصدر يمكننا أن نتساءل عن أي أمانة نتحدث؟
ترى "سيلسكوفيتش D.Seleskovitch" أن المقصود من الترجمة هو تمرير المعنى مع إنتاج نفس الأثر عند المتلقي. وانطلاقا من هذه القاعدة يمكن الحديث عن أمانة للمعنى Fidélité au sens.
1 - الأمانة ونظرية المعنى:
لقد اقترن مفهوم الأمانة بالحرفية، وهذا يضعنا أمام نوعين من الترجمة : الترجمة الحرفية Traduction littérale
الترجمة الحرة Traduction libre
يرفض "هوارس" في كتابه "فن الشعر"، ومنذ القرن الثالث قبل الميلاد كل "ترجمة حرفية Fidus interpres" لأنها من سمات المترجم ضعيف الفؤاد(1). كما كان هدف المترجمين المسيحيين الأوائل، وهم يترجمون النص المقدس، هو تبليغ كلام الرب، لذلك جاءت ترجماتهم بمثابة عبد وفي للنص المصدر، وهذا ما يرفضه "دولي Etienne Dolet" حيث يقول: "على المترجم ألا يكون عبدا وفيا للنص المصدر، إذ ينبغي عليه أن يتجنب كل حرفية"(2).
لقد اعتبر القرن 17، وفي فرنسا بالذات، بالعصر الذهبي لما سمي بالجميلات الخائنات les belles infidelles، ويعود هذا التعبير، بخاصة، إلى "جيل ميناج Gilles Menage" الذي أطلقه بمناسبة قراءته لترجمات "ب.دبلنكور Perrot d'ablancourt" حيث قال عنها: "تذكرني بامرأة كنت قد أحببتها في [مدينة] تور Tours، كانت جميلة ولكن خائنة"(3). من هنا أطلقت لفظة "خيانة" على كل ترجمة حرة. ويرد "مونان" سبب تواجد هذا النوع من الترجمة إلى أسباب تاريخية واجتماعية تتمثل في إخفاء ما يخالف ذوق العصر وأخلاقه وأفكاره. غير أننا عندما نقول: هذه ترجمة أمينة، هي كذلك لمن؟ ولأي شيء؟
يقول جورج مونان: "الترجمات عندنا كالنساء، لكي يكن كاملات ينبغي أن يكن وفيات وجميلات في نفس الوقت"(4).
وتتحدد الأمانة بوجود علاقة مبتغاة بين النص المصدر وترجمته. فتحت اسم الأمانة نجد طرقا عديدة تهتم بعملية فهم علاقة النص بترجمته، ومفهوم الأمانة مفهوم أساسي تقوم عليه نظرية الترجمة. لقد وقف "مونان" على مختلف طرق الترجمة، فصنفها في نموذجين، سمى الأولى: "الزجاج الشفاف les verres ransparents" وسمى الثانية: "الزجاج الملون les verres colorés". وهما طريقتان في الترجمة، تعمل الأولى على إعطاء الانطباع أن النص المترجم نص قد كتب بلغة المترجم، وهذا ما يقربنا من شكل الجميلات الخائنات، ولكنه لا يعطي أي إحساس بالخيانة. وتعمل الطريقة الثانية على ترجمة النص بطريقة: ترجمة لنص كلمة كلمة، وذلك لكي تجعل القارئ يحس أنه يقرأ النص في شكله الأصلي.
من هنا يمكن أن نلاحظ، ومع جورج مونان، طريقتين في التعامل مع النص ونحن نباشر ترجمته: الطريقة الأولى تعطي الأولوية للنص الهدف Texte d'arrivée ، من حيث لغته وعصره… أما الطريقة الثانية فتعطي الأولوية للنص المصدر texte de départ. فالترجمة كعملية إبداعية بين لغتين، تستلزم إعطاء الأولوية، بشكل أو بآخر، إما للغة-المصدر أو للغة-الهدف.
ولكي لا يكون مفهوم "الأمانة" غامضا، ينبغي أن نجيب عن السؤال التالي: الأمانة لمن؟ وهنا إما أن نجد ركاما من الأجوبة: الأمانة للغة-المصدر، الأمانة للغة-الهدف، الأمانة لمتلقي الترجمة، الأمانة لعصر النص-المصدر. ولكن هل من الحكمة أن تكون الأمانة لعنصر واحد دون العناصر الأخرى؟
-هل يمكن اعتبار النص المترجم نسخة للنص المصدر أم هو تكرار له؟
-ما هو المتغير في الترجمة؟
-أين يتموقع المعادل بين النص-المصدر والترجمة؟
-هل هناك علاقة بين الأمانة والهدف المتوخى من الترجمة؟
-هل يمكن أن تكون الترجمة أمينة؟
يعود تحديد مفهوم الأمانة إلى تحديد نوعية العلاقة المناسبة التي لا تخون النص-المصدر لا بانطباعها ولا بحريتها المفرطة، والتي تمكن الترجمة من لعب دور فعل التواصل.
تعتبر ترجمة النصوص المكتوبة، والترجمة الفورية، والترجمة المتتالية، أكثر الترجمات ذيوعا. إلا أن ترجمة نص مكتوب، هي أكثرها انتشارا. فالمهم في عملية الترجمة، هو إعادة التعبير بوسائل تنتمي للغة المترجم. ذلك أنه يعلم جيدا أنه يترجم نصوصا أو خطابات، وهو لا يترجم إلا لكونه يعرف لغات. تبدأ عملية الترجمة بعملية الفهم la compréhension، فهم النص موضوع الترجمة، ثم تنتقل إلى عملية التجريد اللغوي déverbalisation وتنتهي بإعادة التعبير réexpression.
ففهم خطاب ما لا يتبع لا التنظيم العمودي ولا الخطية الدقيقة لتشكل اللغة ولكنه يعمل على تمييز وتحديد الكلمات, وينتج عن هذا ثلاث نتائج، يمكن اعتبارها ذات فائدة كبيرة لنظرية اللغة ولنظرية الترجمة ولتحليل الأمانة في الترجمة:
1-1-التفسير:
تنصب أولى النتائج على خاصية التأويل/التفسير الملازمة لعملية الفهم. فالمتلقي ليس عنصرا جامدا، بل على العكس من ذلك، يعتبر مؤولا بمعية قدراته اللغوية والنفسية والثقافية والإيديولوجية. فهو يؤول الملفوظات اللغوية، التي تخدم عملية التواصل كوظيفة ذات محتوى معرفي.
1-2-أثر الكناية:
ترى "أمبارو هوطادو ألبير" في كتابها: مفهوم الأمانة في الترجمة، أن المتكلم يرتكز في كلامه على معارف المخاطب. فكلام الطبيب لا يمكن تفسيره بنفس الطريقة سواء أتكلم مع زميل له أو مع شخص لا دراية له بمجال الطب. فالمتكلم ينظم ملفوظه تماشيا مع المعارف المشتركة بينه وبين المخاطب، وانطلاقا من المعرفة المفترضة في المخاطب، من اهتمام ودقة ملاحظة وعمق بالموضوع…. فهذه العملية هي المحددة لأثر الكناية داخل الخطاب، في ارتباطها بالسياق الموقعي contexte situationnel والسياق اللفظي contexte verbale والسياق المعرفي contexte cognitif وبالسياق العام الاجتماعي التاريخي contexte général socio-historique:
-فالسياق الموقعي هو الإطار الذي يتموقع داخله الخطاب، إذ يحيط بكل عناصر الحالة التي ينتج داخلها فعل الكلام: المكان، العناصر المؤتثة، الشخصيات…
-ويتكون السياق اللفظي من الكلمات والجمل التي تحيط بالكلمة أو الجملة موضوع السؤال، فكل كلمة هي عنصر بنائي وسياقي بالنسبة لباقي الكلمات الأخرى.
-ويتكون السياق المعرفي من المعلومات المتوفرة، والتي يمدنا بها النص عند قراءتنا الأولى له.
-السياق العام، وهو مجموع الأحداث والسنن والعلائق الاجتماعية الضرورية لمعرفة أي ملفوظ. فالقارئ الذي لم يتتبع الأحداث لفترة تاريخية معينة يصعب عليه فهم النص (كيف يمكن مثلا لمترجم غربي أن يترجم كلمة "السيبة" كاصطلاح سياسي عرفه المغرب إذا لم يعرف الظروف التي ولدته). فالخاصية الإضمارية للغة هي التي تجعل عملية الفهم، والترجمة من ورائه، تتحقق لا كتلخيص لعمليات لغوية. وتعتبر "ليدرير M.Lererer " أن الظاهرة الكنائية تتشكل بطرق عديدة من لغة لأخرى، فكل لغة تختار سبلا مختلفة للتعبير عن نفس الفكرة.
1-3-طبيعة المعنى:
يعتبر المعنى هو ناتج العملية الذهنية المترتبة عن الفهم. وتحليل المعنى غير منفك عن عملية التواصل؛ فكل فهم هو تثبيت للمعنى. من هنا إمكانية الحديث عن المعنى المضمن كناتج لعمليات الفهم، إذ لا يمكن حدوث تواصل بدون تلق.
وعند الحديث عن مرحلة الفهم تحضر مجموعة عناصر:
الصياغة اللغوية -المتممات المعرفية- الذاكرة، ولذلك ينبغي أخذ المعنى ككلية تشترط ترابط جميع العناصر، لغوية وغير لغوية، وكذا مجموع المعارف. كما ينبغي الإشارة إلى أن التجريد اللفظي كمرحلة يتدخل في عمليات الفهم. إذ المعنى هو التركيب غير اللفظي الناتج عن كل عملية فردية، وبهذا تتكون عملية الفهم من:
1 - إنتاج المعنى من قبل المترجم
2 - تثبيت لهذا المعنى
2 - الثابت في الترجمة:
يصعب تحديد مفهوم "المعنى"، بسبب طابعه التركيبي، غير أن هناك مجموعة مقاربات تسعى لتحديده انطلاقا من تحليله وضبطه داخل المدونات المستعملة. وتحديد المعنى يضعنا أمام مجموعة مرادفات تصب، بشكل أو بآخر، في نفس الاتجاه. ومن هذه المفاهيم هناك: الدلالة - الدلالة المحينة - المعلومة - الأسلوب - الأثر - القصد…
يتموضع المعنى بمحاداة مجموعة عناصر لغوية وأخرى غير لغوية. ولإظهار وظيفته بالنسبة للمعايير التي تتدخل في العملية التواصلية، ينبغي تحديد المعنى، في إطار الفروقات المميزة له عن باقي المفاهيم.
2-1-ينبغي التفريق بين الدلالة والدلالة المحينة والمعنى. فالدلالة هي المفهوم أو المفاهيم أو المفاهيم المرتبطة بالدال. أما المعنى فيهتم بفعل الكلام ويوظف الدلالة المحينة داخل السياق (لغوي أو غير لغوي). فخارج السياق، كل كلمة تبعت مفهوما أو لائحة من المفاهيم، إنها دلالتها أو دلالاتها الكامنة والمحتملة.
لا يمكن الحديث عن المعنى إلا عندما نكون إزاء إنتاج للخطابات اللغوية، انطلاقا من تحيين الدلالات. وتنتمي الدلالة المحينة إلى العناصر اللغوية التي تتدخل في عملية بناء المعنى وتشكله. ويتأسس المعنى في فعل الكلام، فالكلمات والجمل تنتج معاني غير متوقعة حسب السياق والمتممات المعرفية للمتلقي.
وعليه، نقف على صعوبة عدم تحديد المعنى.
2-2-المعلومة هي كل ما يتبقى ثابتا بعد كل العمليات القابلة للانعكاس والتشفير، فالمعلومة والمعنى شيئان مختلفان. فالشعر والسرد يمكنهما أن يحملا نفس المعلومات، إلا أنهما لا يعطيان، بالضرورة، نفس المعنى. فالمعلومة تتدخل في بناء المعنى، ولا تتماثل معه. والمعلومة مقابل للشكل اللغوي وللعناصر غير اللغوية التي تتدخل في فعل الكلام لإنتاج المعنى.
3-2-يعبر الأثر عن الناتج وعن الظاهرة المحدثة بسبب، فيما يخص التواصل اللغوي. ويصبح الأثر الناتج المعرفي والانفعالي الذي تنتجه سيرورة الفهم لدى المتلقي. وهو التركيب الحاصل لعملية الفهم. فالصياغة اللغوية التي يقوم بها المؤلف، يمكن أن تحدث آثارا مختلفة عند المتلقي (انفعال، ضحك، بكاء، إقناع….). وهنا أيضا لا ينبغي مطابقة الآثار التي توجد في حالة ما بقوة موجه نحو المعنى. فالأثر هو التركيب النهائي الموجه لعملية الفهم. فكل تجريب لأي أثر لا بد وأن يسبقه تتبيث للمعنى. فالمعنى والأثر مرتبطان، بدقة، وينتميان لنفس السيرورة. فإذا تغير المعنى تغير الأثر كذلك.
وعليه، يصعب قياس الأثر الناجم عند المتلقي، لأنه يمكن أن يظهر بشكل مغاير، من متلق إلى آخر، بحسب المميزات الخاصة، الإيديولوجيا، المعين الشخصي، نوعية العلاقة التي تربط المتلقي بالمتكلم…
ويتدخل الأثر، كعنصر آخر، لبناء المعنى، ما دام يعمل كمحدد في عملية التكوين. والأثر مفهوم أساسي في نظرية الترجمة وفي تحليل الأمانة. لذلك يتوجب على المترجم أخذ الأثر الناتج عن النص-المصدر لدى المتلقي في اللغة-المصدر بعين الاعتبار وذلك لكي ينتج نفس الأثر، ويحافظ عليه لدى متلقي ترجمته.
2-4-يمكن اعتبار القصد عند المؤلف هو الأثر المقصود effet voulu، وهو قصد القول. وهو الهدف الأساسي الذي يسعى إليه المترجم لذلك لا يمكن أن يتطابق القصد مع الأثر عند المؤلف. فلنتصور أننا أمام مترجم ينتمي إلى حزب يميني يود ترجمة نص مكتوب من قبل سياسي يساري، قصد من خطابه إقناع قارئيه بالتصويت لحزبه. ماذا يتوجب على هذا المترجم اليميني فعله؟ لا ينبغي له أن يترجم الأثر الذي أحدثه النص-المصدر في المترجم. بل ينبغي عليه أن يتوجه إلى مقاصد المؤلف بالنسبة لمتلقي النص-المصدر.
2-5-غالبا ما تتطابق دلالة الأسلوب والمعنى. وتعريف "أوجين نايدا E.Nida" هو دليل آخر على أن الترجمة "ينبغي أن تنتج داخل اللغة المتقبلة رسالة اللغة-المصدر بواسطة المعادل الأكثر قربا والأكثر طبيعية فيما يتعلق بالمعنى، ثم فيما يخص الأسلوب"(5).
فالفرق بين الدلالتين هو أن الأولى تعني أسلوب القول، بينما تعني الثانية محتوى القول. فشكل الملفوظ والمعلومة المرغوب إيصالها ضروريان لبناء المعنى، ما دام الأسلوب عنصرا لسانيا يتدخل في عملية الفهم، لتجريد اللفظ ولإنتاج معنى أو أثر لدى المتلقي. فكل لغة تمتلك إمكانات خاصة بها عند عملية الترجمة.
وتتمظهر علامات الأسلوب بأشكال مختلفة حسب اللغات وعليه، يمكن إنتاج نفس الأثر عند قارئ النص المترجم.
3 - الأمانة للمعنى:
كيف تشتغل العلاقة التي تربط بين النص-المصدر والنص المترجم؟ تجمع كل نظريات الترجمة على أن النص المترجم ينبغي أن يقول نفس الشيء، أن يقول ما يقوله النص-المصدر.
أما بالنسبة لنظرية المعنى، تتحدد الأمانة في الترجمة عندما تكون إزاء إنتاج نفس المعنى، رغما عن مجموعة متغيرات.
ما هي المتغيرات التي تتدخل في حالة ترجمة نص مكتوب؟ للحصول على ترجمة وفيه للنص-المصدر ينبغي الانفلات خارج التغييرات التي تشرط النص المترجم، رغما عنه.
لا يخلو النص المترجم من بعض المعيقات التي لا دخل لأي كان فيها. على الرغم من حرص المترجم على نقل النص بكل أمانة. ومن هذه المعيقات، ما يلي:
3-1-الاختلافات اللغوية:
توجد هناك علاقة بين النص-المصدر وترجمته، لخلق تطابق نسبي. غير أننا نصادف عناصر لغوية وغير لغوية تعمل على جعل هذا التطابق غير ممكن. وهي اختلافات على المستوى الصرفي والتركيبي والدلالي. وهذا يقع حتى بالنسبة للغات الأكثر تقاربا (مثال الفرنسية والإسبانية فيما تذهب إلى ذلك "أمبارو هورطاد وألبير").
3-2-الاختلاف بين المؤلف ومترجمه:
تعتبر المطابقة والاختلاف من الخصائص الأساسية للإنسان. فهو متطابق لكونه ينتمي لنفس الجنس، ومختلف لأن الموروثات الجينية لكل واحد تختلف من فرد إلى آخر، ومختلف لكونه كائنا تاريخيا محكوما بتاريخه وحضارته ومحيطه. ولا بد من أخذ هذه الاختلافات بين المؤلف والمترجم بعين الاعتبار.
3-3-اختلاف العصر:
يتعذر أن نجد تزامنية، بمعناها الدقيق، للنص المصدر وترجمته. فالغالب هو أن يكتب النص المصدر في زمن معطى سابق على معنى الترجمة، وخارج عن مرحلة إنتاج النص-المصدر. فالبعد الزمني هو المتغير الأكثر تحديدا في الأمانة للنص المصدر. ذلك أن المسافة الزمنية تعيق علاقة المحددات الشارطة لعملية الترجمة.
3-4-اختلاف المتلقي:
يمكن حصر دلالة النص-المصدر من قبل المتلقي، إذا كانت هذه الدلالة محددة من قبل المؤلف أو انطلاقا من وظيفة النص. ذلك أن النص المترجم يحدد متلقيه الخاص، انطلاقا من محدد اجتماعي أو ثقافي أو مهني. إلا أن المتغيرات الناجمة عن النص داخل عملية الترجمة ليست لغوية بالضرورة كما يمكن أن يسود الاعتقاد.
4 - الأمانة والتطابق:
إن مفهوم التطابق ومفهوم الاختلاف مفهومان أساسيان في التفكير الإنساني، إذ يعودا لسجلات فلسفية قديمة. ذلك أننا نميز، وانطلاقا من أرسطو، بين التطابق العددي والتطابق الكيفي/النوعي؛ وإن كان بعض الفلاسفة يشك في وجود هذا النوع الأخير من التطابق. يتشكل مبدأ التطابق المستعصي identité induscanible، بالنسبة " لليبنتر Leibniz" حينما تكون الأشياء الواقعية غير متطابقة تطابقا كيفيا، من دون أن تتمازج هذه الأشياء.
لا يمكن الحديث عن التطابق حتى داخل اللغة الواحدة، لأننا نصادف اختلافات جهوية على مستوى سجالات اللغة المرتبطة بالقدرات الفردية. فالعلاقة بين المعنى والصياغة اللغوية ليست علاقة مشاركة بشكل نهائي. فالكلمة الواحدة أو الجملة الواحدة يمكنها أن تأخذ معاني مختلفة، حسب السياق، وفي ارتباطها بمختلف العناصر الموظفة في فعل الكلام. فما يهم في عملية الفهم، هو المعنى المضمن، والأثر الذي يظل متعدد الوظائف.
من هنا يمكن أن نتساءل: هل هناك تطابق عام بين المتكلم والمتلقي، بين المؤلف والقارئ؟ إن تعدد القراء شيء طبيعي، لذلك فإن الصياغات اللغوية للمعنى ستعرف تعددا بتعدد القراء. من هنا يمكن أن نتحدث عن تطابق نسبي. فعندما ينطق القاضي ببراءة المتهم، فإن حكمه هذا يظل ساريا. ولكن هل يكون مطابقا لجميع الأحكام والقضايا؟
إن اتهام أي ترجمة بعدم تطابقها للنص-المصدر، هو اتهام مشكوك فيه، أولا، لأن متطلبات التطابق متموقعة في مقابل اللغة، وثانيا لأننا نعطي الترجمة تطابقا لا وجود له داخل التواصل الأحادي للغة.
يشكل اختلاف اللغات نقطة أساسية، فيما يتعلق بصعوبة وتعذر النقل. ذلك إن الحاجة إلى التطابق اللغوي، داخل الترجمة طرقت بشكل خاطئ، فما دامت اللغات مختلفة فهذا بسبب كاف على عدم إنتاج أي شكل من أشكال التطابق.
وإذا كانت هناك حاجة إلى التطابق في الترجمة، فإن ذلك رادع إلى خصوصيات التواصل الأحادي للغة، حيث تشارك الترجمة في عدم التطابق العام للفهم.
فالتطابق الممكن أن نتحدث عنه في الترجمة في الترجمة هو تطابق المعنى، والأثر الناتج عن علاقة الأمانة في الترجمة بالنص-المصدر.
يمكن الحديث عن أمانة للمعنى عندما تكون هناك ملاءمة بين المعنى الحاصل، لدى المتلقي عند قراءته للنص الهدف، وبين معنى النص-المصدر.
فالوفاء للغة-الهدف (لغة الترجمة) والوفاء للغة-المصدر والوفاء لمتلقي الترجمة هي المعايير الثلاثة والأساسية لأية أمانة في الترجمة. يستعمل المترجم، داخل تعبيره وسائله الخاصة متفاديا كل كلام غريب. لأن الغرابة في الترجمة يمكنها أن تؤدي إلى خيانة الترجمة.
لا يشكل تواجد "الكلمة" و"المعنى" أي تعارض عند الحديث عن الأمانة في الترجمة. ذلك أن المتغير، في الترجمة، هو المعنى، الذي يقيم علاقة غير لغوية مع النص، والذي يتشكل مع العلاقة الثلاثية لأمانة الملفوظ.
تقول "امبارو هوركادو ألبير": "إذا رغب المترجم في ترجمة المعنى المضمن (والمكافئ لما أراد الكاتب قوله) ينبغي أن يكون أمينا للمعنى لا للكلمات المضيعة لهذا المعنى. وبالنسبة لإعادة التعبير في لغته [أي لغة المترجم ] يستعمل، بشكل ضروري، صيغا تبتعد عن صيغ النص-المصدر، لأنه يترجم لمتلق مختلف، وفي لغة هي بالضرورة مختلفة"(6).
تشترط النظرية التأويلية في الترجمة مسارا خاصا يتوجب على المترجم، إن أراد الوصول إلى أمانة للمعنى، اتباعه. ويتمثل هذا المسار في عملية الفهم والتجريد اللفظي ثم إعادة التعبير. وهو مسار عملي حاضر في عملية الترجمة.
5 - أبعاد الأمانة:
ترى "أمبارو" ضرورة تواجد ثلاث فرضيات لقيام الأمانة في الترجمة: 1 - الذاتية، 2 - التاريخية، 3 - الوظيفية.
فالممارسة الدائمة وتعليمها جعلت "أمبارو" تستخلص تواجد ترجمات عديدة للنص الواحد. فالخاصية التأويلية الخاصة بالفهم، ومختلف الإمكانات التي يتوفر عليها "المراد قوله" هو التعبير عن نفس المعنى بكلمات عديدة. وهذا الاختلاف في اختيار كلمة بعينها لترجمة كلمة، من قائمة الكلمات في لغة ما، يعود بالأساس إلى الذاتية، أي ذاتية المترجم. كما أن اختلاف زمن النص-المصدر وزمن الترجمة تطرحه "أمبارو" في إطار الفرضية التاريخية، إذ من السهل ملاحظة أن كل عصر ينتج ترجماته للنصوص القديمة. والمثال الذي نستحضره هنا، هو اختلاف الترجمات العربية لنص "فن الشعر" لأرسطو: ترجمة أبي بشر متى/الفارابي/ابن رشد/عبد الرحمان بدوي… تبقى معرفة ما هي نتيجة تدخل البعد الزمني في الأمانة في الترجمة؟ كيف ينبغي العمل حتى نظل أوفياء، مع أن سمة التغيير في الأمانة تتغير مع العصور والحقب؟ إلى أي حد كانت ترجمة عبد الرحمان بدوي وفية لنص أرسطو مع الفارق الزمني؟
5-1-الذاتية والأمانة للمعنى:
تتمظهر الذاتية داخل عملية الترجمة بتدخل القدرات اللغوية (اللغة-المصدر، اللغة-الهدف) والقدرات الخارج لغوية للمترجم. كما تتجلى الذاتية في عملية الترجمة في اختيار المترجم لطريقة ما في ترجمة النص (الطريقة الحرفية-الحرة-التفسيرية) فعندما يستخدم المترجم الطريقة الحرفية فهو يقتصر على تحديد قدراته اللغوية، فيعمد إلى ترجمة اللغة فحسب. وعندما يستعمل مترجم آخر الطريقة الحرة فهو يترجم إذاك النص-المصدر بشكل حر. فهو يطابق المعنى المضمن بما أراد المؤلف قوله. أما عندما يختار مترجم ثالث الطريقة التفسيرية، فهو يتدخل في الترجمة بمجموع معارفه.
وهنا تجذر الإشارة إلى أن هذه الطرق الثلاث يمكن مصادفتها -في الغالب الأعم- موظفة من قبل مترجم واحد، بل وربما في النص الواحد. فهذه الانتقائية هي المحددة للذاتية. وبهذا ترى "أمبارو" أنه لا يمكن الحديث عن طريقة واحدة في الترجمة، بل أكثر من ذلك ترى أنه لا يمكن الحديث عن أية طريقة في الترجمة. وبهذا فهي تحث المترجم على استعمال:
-الطريقة الحرفية عندما لا يكون المترجم متوفرا على معارف خارج لغوية، أي عندما تنحصر معرفته في لغة النص فحسب.
-الطريقة الحرة عندما لا يكون المترجم متقنا للغة أخرى سواء أكانت لغة النص-المصدر أو لغة النص-الهدف.
-الطريقة التفسيرية تجعل المترجم غير ملزم بالتدقيق في لغة النص-المصدر. وهذه الطريقة تمكن المترجم من المراوحة بين مرحلة الفهم والتجريد اللغوي وإعادة التعبير. وبالتالي تجعله يركز على المعنى، وبأن يكون وفيا لهذه المعايير الثلاثة. ولتوظيف هذه الطريقة ينبغي على المترجم أن يتوفر على معارف كافية باللغة-المصدر وعلى معارف خارج لغوية تلائم اللغة-الهدف وتتحكم فيها.

5-2-التاريخية والأمانة للمعنى:
إن ظاهرة تحيين المرحلة ليست ذات مستوى لغوي فحسب، ولكن يمكن أن نصادف في الترجمات اختلاف الأذواق الجمالية للمرحلة، المحرمات المبادئ الإيديولوجية… فالمترجم محاصر ليس فقط بلغة العصر الذي يترجم له، ولكن بمجموعة من العناصر، ذات نسق خارج لغوي: إيديولوجي، سياسي جمالي…
لقد أشار "جورج مونان" إلى أن "الجميلات الخائنات" لا تعمل إلا على تجنب كل ما يتواقف مع ذوق العصر، وتنجز مقارنة جمالية وأخلاقية بين النص والقارئ. وتعتبر الفترة الزمنية التي تمت فيها الترجمة بمثابة معيق على مستوى اختيار الطريقة الموظفة في الترجمة. فأهمية النص ونوعيته مهمة في الرغبة في ترجمة النص. فكل فترة تستوجب تحيينا للترجمة فعندما يكون النص قديما، فإن المسافة التي تفصله عن زمن الترجمة تضاعف من مشاكل الترجمة. وذلك لأن لغة النص-المصدر قديمة ويمكنها أن تطرح عدة صعوبات في الفهم. ولأن العناصر ذات الترتيب الخارج لغوي والمتداخل في النص-المصدر قد تنغلق معرفته على المترجم. ولهذا نجد، دائما تأويلات مختلفة وحلولا عديدة لتقريب النص من القارئ. كما أن هناك صعوبات تاريخية تعود إلى حالة اللغة في فترة زمنية معينة.
5-3-الوظيفية والأمانة للمعنى:
تعتبر الوظيفية المحدد الثالث للأمانة في الترجمة، وهي متفرعة عن الدينامية، وتتحدد بأهداف الترجمة وإرغامات اللغة. وفي مقابل هذه العناصر، يمكن أن نتساءل إذا كانت الأمانة ستظل هي هي؟ وهل يمكنها أن تتمظهر بنفس الطريقة أم تأخذ أشكالا مختلفة حسب الحالات؟
خاتمة:
إن المشاكل النظرية التي تطرح على الترجمة لا يمكن حلها أو إضاءتها إلا في إطار النظرية اللسانية التي ارتبطت بها نظرية الترجمة. ويتساءل "ج.مونان" على طول كتابه" المشاكل النظرية للترجمة"(8) حول إمكانيات الترجمة في استغلال النظريات اللسانية الحديثة، وذلك بهدف إيجاد مشروعية الترجمة كعملية لسانية. وبهذا يركز اهتمامه على اللغات. وليجعل هدف الترجمة قول ما يقول النص-المصدر. غير أن هذا "النفس شيء" يظل غير محدد. إن هدف "ج.مونان" هو الإحاطة بمسألة الترجمة، وذلك بشرح وظائفها انطلاقا من مقومات النظرية العامة للغات.
لقد بقي السؤال المفتاح هو معرفة كيف تعمل الترجمة لتكون أمينة وألا تخون النص-المصدر لا بخضوعها المطلق له ولا بحريتها المسرفة؟ يصب السجال المثار حول الأمانة في قلب عملية الترجمة والتواصل اللغوي العام، أي العلاقة بين "الكلمة" و"المعنى". ولكي تكون الترجمة أمينة للنص-المصدر ينبغي ضبط الجهاز المعرفي بغية تحديد المعنى. وهذا يستوجب مراعاة معايير الأمانة. كما ينبغي تأويل النص قبل ترجمته دون الخروج عن حدود المعنى.
------------------
الهوامش
1 - فن الشعر، هوراس، ترجمة لويس عوض، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط.3، 1988، ص 118.
2 - Cité par Amparo Hurtado Albir, la notion de fidélité en traduction, coll. Tranductologie n°5, Didier Erudition 1990, p.14
3 - نفس الصفحة.
4 - MOUNIN (G), Linguistique et traduction, Bruxelles, 1976, p. 145.
5 - Cité par Amparo Hurtado Albir, op.cité, pp. 78-79.
6 - نفسه، ص 118.
7 - يمكن الرجوع إلى كتاب فن الشعر لأرسطو، مع الترجمة العربية القديمة وشروح الفارابي وابن سينا وابن رشد، ترجمه عن اليونانية وشرحه وحقق نصوصه: عبد الرحمان بدوي، دار الثقافة، بيروت، بدون تاريخ.
8 - MOUNIN (G), les problèmes théoriques de la traduction, Paris, Gallimard, 1963.

ليست هناك تعليقات: