لورنس فينوتي
أ.د. أحمد رامز قطرية
قسم اللغة الإنكليزية ـ جامعة الملك سعود
ملخص البحث
يبحث الكاتب في المشكلات التـي تحيط بالترجمات إلى اللغة الإنكليزية من اللغات الأخرى ويوضح أن "الترجمة" مهمة بحيث لا يدري القارىء بالإنكليزية ماهية الاختلافات اللغوية والثقافية بين ما يقرأ والأصل بما يؤدي إلى وجود نرجسية حضارية وعدم اهتمام بالأجنبي. ويبحث الكاتب النتائج الحضارية والسياسية لتحجيم دور الترجمة في تدريس الأدب المترجم والممارسات التعليمية التـي يمكن تطويرها لمواجهة مشكلة الترجمة أو ما يمكن أن يسمى بالقيم المحلية التـي تدخل النص الأجنبي خلال عملية الترجمة. ويبين الكاتب أن موضوع الترجمة لا يطرح في المقررات التـي تستعمل النصوص الأجنبية رغم وجود فجوات تاريخية وثقافية بين النص الأصلي والنص المترجم كما يوجد في هذه النصوص "بقية" معاني وقيم تنقص أو تزيد على ما يوجد في النص الأصلي، لكن من المهم أن يعرف قارئ النص المترجم أن طرقه النقدية محدودة ومؤقتة وتوجد في تاريخ متغير في وضع ثقافي محدود ضمن منهج محدد وفي لغة محددة. ويقترح فينوتي تدريس "البقية" كطريقة فعالة لتعليم مشكلة الترجمة ويستخدم نص أيون لأفلاطون ونصاً من هومر لتوضيح مشكلة "البقية" وكيفية تدريسها.
تتبع الأفكار التـي سترد هنا من المشكلات التـي تحيط بالترجمات إلى اللغة الإنكليزية على المستوى الدولي"لتجارة الأفكار". فلا تزال الإنجليزية اللغة التـي يترجم منها أكثر من غيرها من اللغات في العالم، وهي واحدة من أقل اللغات التـي يترجم إليها. فالترجمة التـي تصدر من الناشرين الإنجليز والأمريكان تمثل (%2) اثنين بالمائة من الإنتاج السنوي لهؤلاء الناشرين أو ما يقارب 1200 إلى 1400 كتاب؛ بينما يختلف الحال في كثير من الدول الأجنبية الصغيرة والكبيرة الشرقية منها والغربية حيث إن النسبة أعلى بدرجة واضحة: (%6) ستة في المائة في اليابان (حوالي 2500 كتاب) (%10) عشرة بالمائة في فرنسا (4000 كتاب)، (%14)أربعة عشر في المائة في المجر (1200 كتاب)؛ (%15) خمسة عشر بالمائة في ألمانيا (8000 كتاب)؛ (%25) خمسة وعشرين في المائة في إيطاليا (3000 كتاب) (المصدر: غرانيس 1993 Grannis). وهذا التفاوت في نسب الترجمات يؤكد أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تتمتعان بهيمنة على الدول الأجنبية تفوق حدود السياسة والاقتصاد لتمتد إلى الهيمنة الثقافية.
بالإضافة إلى هذا فالأفضلية الدولية للإنجليزية تتماشى مع هامشية الترجمة في الحضارة الإنكليزية ـ الأمريكية في الوقت الحاضر. فبينما يُتداول الأدبان الأمريكي والإنجليزي في كثير من اللغات الأجنبية ويكلف ذلك أموالاً كثيرة للناشرين الأجانب تحظى ترجمة الآداب الأجنبية إلى الإنجليزية بتمويل ودعاية قليلين. فالدخل من الترجمة قليل، وتقييمها غير موجود وفي أغلب الأحيان تبقى الترجمات غير مرئية لقراءة اللغة الإنجليزية. فقوة الثقافة الإنجليزية، الأمريكية في الخارج حدت من انتشار الثقافات الأجنبية في أمريكا وإنجلترا وأنقصت بذلك فرصاً لمواطني هذين البلدين في التفكير في ماهية الاختلافات اللغوية والثقافية. فمن الواضح أنه لا توجد لغة يمكن لها أن تنسى تماماً وجود خطاب مختلف ولهجات متعددة، أو نظماً ومفردات ثقافية مختلفة. وتتضح هذه الحقيقة عن طريق وجود أشكال متعددة من اللغة الإنجليزية، وهذا لا يكمن فقط في الفروق في الاستعمالات بين الإنجليزية البريطانية والأمريكية فحسب، ولكن في تعدد الأشكال اللغوية والثقافية داخل الدول الناطقة بالإنجليزية أيضاً. ورغم هذا فإن الخطر الذي يطرحه الموقع الهامشي للترجمة يعني وجود نرجسية حضارية وعدم اهتمام بالأجنبي، وهذا شيء لابد أن يفقر الحضارة الإنجليزية، الأمريكية وينمي قيماً وسياسات تبنى على قاعدة من عدم التساوي والاستغلال. ويمتد تهميش الترجمة حتـى إلى المؤسسات التعليمية حيث تظهر في تناقضات مزعجة: فهناك اعتماد كلي على النصوص المترجمة في المناهج وأعمال البحث، بالإضافة إلى وجود اتجاه عام في التدريس ولدى دور النشر لتجاهل موقع النصوص المترجمة كترجمة ومعاملتها كأنها نصوص كتبت في اللغة المترجم إليها. ورغم أن الترجمة أخذت مكانها بشكل فعال منذ سبعينات القرن العشرين كحقل أكاديمي وكمجالٍ صُرف فيه المال في مجال النشر الأكاديمي جعلها جزءاً من المؤسسة الأكاديمية كما حدث مع برامج حلقات البحث في الكتابة الإبداعية والبرامج المخصصة لإعطاء الشهادات والبرامج الأكاديمية في نظرية الترجمة والنقد، وسلسلة الكتب المخصصة للترجمات الأدبية أو للدراسات الترجمة، رغم كل هذا الاعتراف المتزايد تبقى الحقيقة واضحة وهي ان الترجمة لا تزال محجمة في مجال تدريس الأدب المترجم. وتكمن أهداف البحث في استكشاف سؤالين رئيسيين يثيرهما هذا التحجيم: أولهما النتيجة الحضارية والسياسية لهذا التحجيم أو ما هي أنواع المعرفة أو الممارسات التـي يمكن أن تصبح حقيقة أو تختفي بسبب هذه السياسة؟ وما هي الممارسات التعليمية التـي يمكن تطويرها لمواجهة مسألة الترجمة أو ما يسمى "بقية" القيم المحلية المدخلة في النص الأجنبي خلال عملية الترجمة؟
ورغم أن الترجمة تستعمل بشكلٍ لا يمكن تجنبه في الكليات والجامعات، فالغريب هو التغييب الذي يتم "للبقية" وهو شيء منتشرٌ على نطاق واسع. فمناهج المستوى الجامعي الأول في تخصصات الإنسانيات أو في المواد المبينة على "الكتب الأساس" أو النصوص التـي أخذت موقعها في صلب التراث الحضاري الغربي تعتمد بشكلٍ رئيس على ترجمات إنجليزية من اللغات القديمة أو الحديثة. وبعد تلك المواد التـي تطرح في السنة الأولى أو الثانية تصبح الترجمات شيئاً لا يمكن الاستغناء عنه في مناهج المرحلة الجامعية الأولى والمرحلة التـي تليها في كثير من الاختصاصات كالأدب المقارن والفلسفة والتاريخ والعلوم السياسية وعلم الآثار والاجتماع. وقد استجابت بعض أقسام اللغات الأجنبية لمشكلة انخفاض أعداد طلابها في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية عن طريق طرح مواد عن الآداب الأجنبية بترجمات إنجليزية فقط. وخلال العشرين السنة الماضية مكنّت الترجمة من تطوير النظرية الثقافية مما غير بشكلٍ جذري النقد الأدبي الأنجلو - أمريكي طارحاً اتجاهات جديدة تمزج الثقافة بقضايا اجتماعية وسياسية ومطورة اتجاهات أخرى تجمع بين أنواع من الدراسات كالدراسات الثقافية. وتهتم هذه المفاهيم والتغييرات المنهجية في حالات كثيرة بمسألة الاختلاف اللغوي والثقافي التـي تقع في صلب موضوع الترجمة ومنها مسألة حضور العقائد العرقية والجنسية في الإنتاج الثقافي ومسألة تطوير النظرية الخاصة بفترة ما بعد الاستعمار لدراسة الاستعمار والثقافات التـي خضعت له طوال تاريخ العالم، ومسألة ظهور التعددية الثقافية لمواجهة الموروث الثقافي الأوروبي الرسمي وخاصة في وجوده في مواد الكتب الأساس. لكن التدريس والبحث بشكل عام تجاهلا اعتمادها على الكتب المترجمة، ولم يوجه أي اهتمام لبعد الترجمات المستعملة في التدريس والمنشورة في المؤسسات الأكاديمية عن النص الأجنبي حيث يقف خطاب المترجم للإنجليزية بين النص الأصلي والباحث.
ويمكن قياس مدى انتشار هذا التعميم من طرائق تدريس الأدب العالمي وهي سلسلة نشرتها الجمعية الأمريكية للغات الحديثة (MLA) والتي ظهرت أولاها عام 1980 وبلغت حتـى الان أكثر من خمسين مجلداً. وتجمع هذه السلسلة معلومات بييلوغرافية وطرقاً تعليمية لنصوص أدبية معروفة منها القديم ومنها الحديث ومن ضمنها نصوص كتبت بلغات أجنبية. وتمثل هذه الطرق عينات تطبيقة واسعة الانتشار في الولايات المتحدة وكندا. ويقول المحرر العام للسلسلة في المقدمة العامة "يبدأ إعداد كل مجلد بمسح عام لأراء المدرسين وهذا ما يجعلنا قاردين على أن نضع في المجلد فلسفات وطرقاًَ وأفكاراً ومنطلقات نظرية لعشرات المدرسين المخضرمين". ومن بين نصوص اللغات الأجنبية المقدمة في هذه السلسلة نص دانتي الكوميديا الألهية 1982 ونص سيرفانتيس دون كيشوت 1984 ونص كامو الطاعون 1985 ونص إبسن بيت الدمية 1984، والإلياذة والأوديسة لهومر 1984 وفاوست لغوته 1987 وكانديدا لفولتير 1987 والعهد القديم 1989 ونص غارسيا ماركيز مئة عام من العزلة 1990 وكتاب مونتين مقالات 1994. ويحتوي كل مجلد من المجلدات المخصصة للنصوص الأجنبية عل فصل ببيليوغرافي يحمل عنوان "المادة" يناقش الترجمات الموجودة للنص لتقييمها على أسس عملية: الدقة، تواصلها مع الطلاب المعاصرين، سهولة الحصول عليها في السوق، وتقبلها من الأشخاص الذين أجابوا عن الاستبانة. لكن في الجزء المخصص للطرق التربوية والمسمى "طرق معالجة النص" لا تطرح الترجمة كموضوع النقاش إلا فيما ندر رغم أن كثيراً من المقالات تشير إلى النصوص المترجمة إلى اللغة الإنكليزية والمستعملة في التدريس.
فعلى سبيل المثال لنأخذ المقالة الموجود في المجلد المخصص لدانتي تحت عنوان "تدريس كتاب دانتي الكوميديا الإلهية عن طريق نص مترجم". وتصف هذه المقالة مادة دراسية تطرح لطلاب المرحلة الجامعية الأولى في الأدب الإيطالي في العصور الوسطى تقدمها جامعة تورنتو. لكن رغم هذا العنوان فلا توجد إلا فقرة واحدة مخصصة للحديث عن الترجمة في هذه المقالة التـي تأتي في سبع صفحات. فبعد أن توضح الفقرة أن المشكلة الأساس التـي تواجه قراء دانتي نحو أواخر القرن العشرين هي مشكلة البعد الحضاري يُضيف المدرس كاتب المقالة ما يلي:
هناك حاجز آخر بين الطلاب ودانتي في هذه المادة: اللغة فنحن نقرأ الكوميديا الإلهية عن طريق الترجمة ومهما كانت لغة الترجمة جيدة فهي لن تكون كلغة دانتي. فلن يحلم أي مترجم أبداً أن يعيد صياغة سلاسة ووقع شعر دانتي، وذلك يعود ببساطة إلى الاختلافات الجوهرية بين الإنجليزية والإيطالية. وهناك خطر آخر في الترجمة. في النص الأصلي غموض في أماكن مختلفة لا يستطيع المترجم أن يعيد صياغتها. فعلى المترجم/المترجمة أن يتخذ موقفاً نقدياً قبل معالجة أي نص صعب. وهكذا فإن كل ترجمة للكوميديا الإلهية مليئة بتفسيرات المترجم للنص الأصلي. وهكذا تحذف بعض التفسيرات الممكنة في لغة دانتي ويخلق غموض في أماكن أخرى ربما لم يكن موجوداً في الأصل. ولا تستطيع حتـى الترجمات النثرية تفادي هذا النوع من التحريف في محاولاتها لإعطاء المعنى الأصلي وبذلك تخرب بصورة كاملة روح النص. هذا ما يدفعني لتفضيل ترجمة شعرية. ففي رأيي أنه من المحبذ أن يضحي بقليل من الدقة في الترجمة للحصول على نكهة من شعر دانتي. واستعمل ترجمة دورثي سييرز للكوميديا الإلهية رغم خلوها من العيوب. (إينوتشي155).
وهنا تنتهي الفقرة وهي ترينا فهم المدرس الواعي لعملية فقد صفات ثقافية ولغوية من النص الأجنبي في النص المترجم الذي يضيف في الوقت نفسه صفات خاصة من ثقافة اللغة الهدف. لكن إشارة المدرس العابرة لترجمة دوروثي سييرز يوضح لنا أن هذا الفهم لا ينعكس في ما يحدث في الصف بأي طريقة منظمة أو مشروحة. فالمدرس يؤكد أن "هدف هذه المادة ينقسم إلى شقين: الأول مساعدة الطلاب لفهم عالم دانتي الشعري في سياق ثقافة العصور الوسطى، والثاني توعية الطلاب بمراحل النقد نفسه" 155 لكن ما يبدو ناقصاً هو وجود وعي ذي تأثير فهناك على الأقل مرحلتان نقديتان مختلفتان تعملان معاً: تلك التـي تعود إلى المترجم أي التفسير الذي تمثله نسخة سييرز وتلك التـي تعود إلى المدرس التـي تمثلها محاولته لإعادة بناء "عالم دانتي الشعري" عن طريق "عشر محاضرات تحضيرية مخصصة لتغطية الفجوات التاريخية والثقافية بيننا وبين دانتي ولإنشاء أبعاد نقدية تمكننا من تفسير القصيدة من خلالها". 155
تكمن المشكلة في عدم استطاعة الترجمة أو المحاضرة "سد" هذه "الثغرات". فرغم محاولة المترجم إزالة كل الحواجز بين الطالب والنص الإيطالي فهو يعتقد (وبشكل يتعارض مع ما يفعله) أن "الكوميديا الإلهية لا تحتاج إلى وسيط الآن أكثر من أي وقت مضى، إذا أردنا أن نتفادى القراءات التبسيطية والمتعارضة مع الوقت التاريخي الذي كتب فيه النص" 155 وهذا التدخل يجعل من المحتم وجود حاجز آخر: فهي تعكس الدراسات النقدية الحديثة لقصيدة دانتي وحضارة إيطاليا في العصور الوسطى، أي أخر ما كتب عن الموضوع "أو الرأي النقدي الحديث، على الأقل في أمريكا الشمالية" 156. فالقراءات في هذه المادة لا يمكنها تفادي التعارضات الناتجة عن الاختلاف مع زمن النص الأصلي و"التشويهات" الحاصلة أي "الغموض" الذي قد لا يوجد في النص الأصلي لأن هذه القرارات مبينة على ترجمة جرت في إنجلترا ونشرت في الأربعينات من القرن العشرين عبر سلسلة من الكتب الموجهة لعامة الناس، (كلاسيكيات بنغوين) والتي استخدمت في صفوف الجامعات الكندية في أواخر السبعينات من القرن العشرين.
فعندما لا يقوم المدرس بتعليم الطلاب قيمة النص يصبح المدرس مثالاً لما قاله جاك دريدا في مقولته أن الترجمة "مشكلة سياسية، مؤسساتية جامعية: فهي كالتدريس في شكله التقليدي (وربما في كل أشكاله) لها وضعها الأمثل الذي يأخذ شكلاً يُغيب ملامح اللغة عن طريق الترجمة المتكررة" (دريدا، 93، 94). وطرائق التدريس الحالية تتبنى ضمنياً فكرة الترجمة على أنها وسيلة تواصل لا تأثير للغة عليها رغم أنه لا يمكن وجود ترجمة دون لغة، كما يقول دريدا عن وسيلة التواصل هذه إنه "يحكمها النموذج الكلاسيكي الذي يقول إنها لا تمتلك المقدرة على نقل الصوت أو المقدرة على تقنين المعاني المتعددة" 93. لكن التفكير في الترجمة كعملية "نشر" أي إطلاق للمعاني المختلفة التـي تنتج عن تغيير في اللغات سيثير مشكلة سياسية: لأن هذا يطرح للمساءلة موضوع توزيع السلطة في الصف بسبب فضحه للأوضاع اللغوية الثقافية التـي تعقد تفسيرات المدرس. فدراسة المعاني التـي تضعها ترجمة سييرز الإنجليزية لنص دانتي الإيطالي سيضعف من السلطة التفسيرية للمدرس الذي يُدرس على أساس يقول إن قراءاته صحيحية أو كافية للنص الإيطالي رغم أنه قد تشبع بالدراسات الأكاديمية الحديثة واستعمالات الطلاب للترجمة. ورغم أن مقالة المدرس الآنف الذكر تكشف عن إدراكه وجود تواصل غير متوقع للمعاني في عملية الترجمة وأن نسبة النقصان أو الزيادة تحدث بين نصوص اللغتين الأصل والهدف فإنه في تدريسه يفترض أن تغلب على هذه النسبة وأن تفسيراته هي في الواقع شفافة باللغة الإنجليزية للنص الإيطالي.
ولكن ما تم حفظه هنا هو السلطة: سلطة تفسيرات المدرس وسلطة اللغة التـي استعملت أي الإنجليزية. فكما يلاحظ دريدا فإن الفكرة السائدة في المجتمع الجامعي عما يمكن أن يترجم يحيد اللغة الوطنية (94) أي أن لغة التدريس ليست لغة محايدة في عرضها لنصوص أجنبية لكنها محلية ومرتبطة بالأقطار المتكامة بالإنجليزية. وتغييب موضوع الترجمة في الصف يخفي دون شك القيم الحضارية الإنجليزية والأمريكية المغروسة في النص الأجنبي وفي الوقت نفسه يعامل اللغة الإنجليزية وكأنها وعاء شفاف يحمل الحقيقة الخالصة وهذا يشجع نظرة محلية لغوية ذات آفاق ضيقة لدرجة أنه يمكن القول إن هذا يشجع وجود موقف ثقافي قومي. ويحدث هذا في الغالب في مراد الإنسانيات فمن الممكن أن تستخدم ترجمة "ثقة" النص الأجنبي في خدمة أهداف محلية. فالدفاع عن الكتب العظمى على سبيل المثال افترض في كثير من الأحيان تواصلاً بين هذه الكتب والثقافة الوطنية البريطانية أو الأمريكية وتجاهل في الوقت نفسه فروقاً ثقافية وتاريخية هامة من ضمنها فروق أتت عن طريق الترجمة. فتقرير وليام بنيت الذي أثار ضجة حول تدريس الإنسانيات في الولايات المتحدة يمكن أن يأخذ كمثال: النصوص الثقة للأدب والفلسفة الأوروبية يجب أن تُشكل "الجزء الأساسي من مناهج الجامعات الأمريكية "على حد قوله "لأن الأمريكيين جزء من نتاج الحضارة الغربية". ورغم أن الطلاب في المواد الأساسية لا يستطيعون قراءة اللغات الغربية التـي كتبت بها أكثر هذه النصوص (بينت 21). ويوضح جون جيلوري John Guillory أن ترجمة الأعمال الكلاسيكية للغة المترجم العادية يعد تدعيماً مؤسساتياً قوياً للتتابع الثقافي الخيالي المزعوم فهي تؤكد خطط المحليين بالسماح لهم بمصادرة نصوص لغة أحنبية (جيلوري43 ). وعندما يُعتم على موضوع الترجمة أثناء تدريس النصوص المترجمة تعطى لغة الترجمة وثقافتها قيمة أعلى وتبدو وكأنها تعبر عن حقيقة النص الأجنبي بينا هي في الواقه إعادة بناء لصورة كُيفت لتلائم ما يفهم محلياً وما له أهمية محلية.
وقد يساعد منهج تعليمي يشمل أدباً مترجماً الطلاب على تعلم القدرة على نقد النفس ونقد فكر ثقافي متحيز لنفسه ضد غيره عن طريق توجيه الانتباه إلى أهمية المكان في النصوص وفي تفسيراتها فالترجمات مفهومة دائماً (إن لم تكن مصنوعة خصيصاً لهم) من جماعات ثقافية معينة في حقبة تاريخية معينة. وتغييب الترجمة يجعل من الأفكار والأشكال تبدو وكأنها لا تعود إلى مكان معين بل إنها فلتت من التاريخ وسمت على الفروق اللغوية والثقافية التـي أوجبت ترجمة هذه النصوص في بادىء الأمر بل وتفسيرها في داخل الصفوف المدرسية أيضاً. فالجهد الذي يبذل لإعادة بناء الحقبة التاريخية التـي أنتج فيها النص الأجنبي، ولخلق البيئة التاريخية للتفسير لا تعوض عن فقد التاريخ كعملية معقدة بل تزيد من تعقيدها: فيشجع الطلاب لرؤية تفسيراتهم التاريخية وكأنها موجودة في النصوص عوض أن تكون قد أوجدت عن طريق خطابات الترجمة وطرق النقد التـي تعود إلى القيم الحضارية لأوقات مختلفة لاحقة. ويتولد لذلك عند الطلاب مفهوم لتفسير الحقيقة وكأنها تنبع عن متابعة كافية للنص متجاهلين الواقع أي أنهم يخلقون هذه الحقيقة عن طريق اختياراتهم وتوليفهم للشواهد النصية والبحث التاريخي وبهذا تكون تفسيراتهم وتأخذ شكلها عن طريق الضوابط اللغوية والحضارية، التـي تتضمن اعتمادهم على الترجمة. فإن علم الطلاب أن نصاً ما نص مترجم واستخدمت هذه المعرفة ضمن عملية التفسير الصفية فيمكن لهذا أن يعلم الطلاب أن طرقهم النقدية محدودة ومؤقتة وتوجد في تاريخ متغير في وضع ثقافي محدد ضمن منهج معين وفي لغة محددة. وبمعرفتهم بوجود هذه الحدود تبدو لهم الاحتمالات المختلفة لفهم النص الأجنبي والطرق المختلفة في فهم موقعهم في تاريخهم الحضاري.
ومثل هذه الطرائق التدريسية ستحتم بالطبع مراجعة المواد والمناهج والكتب الثقة والأنماط الدراسية. على كل حال فإن الترجمات تصبح جزءاً من القراءات المطلوبة لأن النصوص الأجنبية الأصلية تعتبر ذات قيمة عالية وهذا قد لا يعود لقيمتها ذاتها رغم أن بعض الترجمات تختار دون شك قبل ترجمات أخرى حسب نظم وأحكام مختلفة. فالكلام عن موضوع الترجمة في الصف التدريسي يجعل من هذا التقييم معضلاً لأنه يحتاج إلى نظرة ذات تركيزين مختلفين. فيجب أن يأخذ بعين الاعتبار النص الأجنبي وحضارته بالإضافة إلى نص وحضارة الترجمة. ومن هنا فعلى المدرس أن يستبدل نصوصاً ثقة وأن يواجه مفهوم ترجمات ثقة, وعليه أن يراجع المناهج ويعدل نسبة استخدام الوقت في الصف ويطور المواد المطروحة التـي تشمل عدة فروع عبر اللغات والحقب الزمنية المدروسة. فليس علينا تدريس دانتي وحده، ولكن تدريس دوروثي سيبرز أيضاً، ولا تدريس الثقافة الفلورنسية في العصور الوسطى فحسب ولكن الثقافة الأدبية الاكسفوردية قبل الحرب العالمية الثانية (كخطوة أولى لإعادة بناء الوسط الذي أنتجت فيه ترجمة سييرز ـ انظر رينولدز Reynolds) فوضع نصوص معينة جانب بعضها بتفاصيل منتقاة من الإيطالية والإنجليزية سيوضح الملامح الأساسية لهذه النصوص ومواقعها التاريخية والحضارية المختلفة وسيتعلم الطلاب أيضاً أن الكتب الثقة تبقى كذلك بقدر ما يسمح مترجموها لها أن تكون كذلك بالإضافة إلى أن اعتبار كتاب ككتاب ثقة لا يعتمد فقط على ملامح نصية ولكن على أشكال الاستقبال التـي تعكس قيم فئات حضارية معينة دون أخرى.
لأن طرائق تدريس الأدب المترجم تهدف لفهم الخلافات اللغوية والحضارية فهي تعطي مثالاً لمفهوم هنري جيرو عن "طرق تدريس الحدود" التـي يرى فيها أن "الثقافة لا ينظر إليها على أنها كيان أحادي أو غير متغير ولكن كفضاء متغير يحتوي على عديد من الحدود المتباينة تختلط فيه أشكال من التاريخ واللغات والتجارب والأصوات في علاقات متعددة من القوة والتفاصيل" (جيرو32). وتدريس موضوع الترجمة يبين كيف أن اختلاف أشكال الاستقبال تبني أهمية النص الأجنبي وأيّ من هذه الأشكال يحتل موقعاً قيادياً أو هامشياً في الحضارة المحلية في أوقات تاريخية مختلفة ويمكن لفلسفة تدريس كهذه أن تؤثر في النقاش الذي يجري حالياً حول التعدد الحضاري ولكن بشكلٍ غير متوقع. فهي لا تصر على أن يترك الأدب الأوروبي الثقة فهذا لن يكون خطوة استراتيجية حيث إن الحضارة المعاصرة تأخذ جذورها من الحضارة والتقاليد الأوروبية وتعتمد كلياً على ترجمات النصوص الثقة لهذه الحضارة. وطرائق تدريس تحاول أن تتعامل مع الترجمة ستشكك في أي عملية دمج بسيطة لهذه النصوص مع نصوص من حضارات مستبعدة أو بكلمة أخرى بمفهوم نصوص ثقة من حضارات متعددة. فهذا سيجعل تعادلاً عن طريق حذف البعد التاريخي الذي يميز بين النصوص فتخلق بذلك ما يدعوه جيرو "أفق تعادل كاذب ومفهوم متفق عليه لأنه سلب موقفه السياسي" ومتجاهلين الإهمالات التـي تدخل في تركيبة الكتب الثقة وأي مؤسسة تعليمية. (32 وكذلك انظر جيلوري 53). فدراسة الترجمة تشير إلى أن احترام التباينات الحضارية، وهو أحد أهداف تدريس التعددية الثقافية، يمكن تعلمه عن طريق تأريخ الأشكال المتعددة من استقبال ما هو أجنبي بما يشمل من الأشكال الخطابية المستعملة في ترجمة النصوص الأجنبية، ثقة هي كانت أو هامشية.
وهكذا فإن فلسفة لتدريس الأدب المترجم يمكن أن تخدم الأهداف السياسية التـي تصورها جيرو لفلسفة الحدود. ويقول جيرو "لو ربطنا مفهوم فلسفة الحدود مع ضروريات نقد ذي أبعاد ديمقراطية (وهذا شيء يجب أن يحصل) على التربويين أن يملكوا تفهماً نظرياً للطرائق التـي يبنى فيها الاختلاف عبر أشكال وممارسات تسمى أصوات المجموعات التـي تحمل موضعاً ذا سلطة في المجتمع الأمريكي أو تعطيها الشرعية أو تهمشها أو تمنعها" 32. وذكر كلمة "أمريكي" يذكرنا أن جيرو لا يفكر بأنماط مختلفة من الإنجليزية ولا باللغات الأجنبية ولا بمسألة الترجمة فقط. فهو كالدعاة الآخرين للتعددية الثقافية لا يفكر في أية حدود إلا تلك التـي تقع بين الفئات الأمريكية المختلفة. لكن عدد الأعمال المترجمة في الوقت الحاضر يشير إلى أن الفئات الأجنبية هي في الحقيقة ثقافات لا تملك أي سلطة في البلاد التـي تتكلم بالإنجليزية فإنجلترا والولايات المتحدة. والأكثر أهمية في هذا أن الترجمة نفسها تؤكد درجة من الخضوع في أية لغة هدف عن طريق بناء شكل للنص الأجنبي يحمل بالقيم الثقافية لهذه اللغة. وعند الكشف عن عملية التحميل هذه في كل نص مترجم وتقييم أهميته الثقافية والسياسية يمكن أن تقوم فلسفة تدريس للأدب المترجم كفلسفة حدود جيرو بالعمل "كجزء من سياسة الحدود التـي تظهر الاختلافات والتي تجعل من البعد السياسي والأخلاقي شيئاً أساسياً" 28. وعندما يرى الطلاب أن الترجمة ليست عملية تواصل بسيطة بل عملية استيلاء على النص الأجنبي من أجل خدمة أهداف عائدة للغة الهدف عندها سينظرون بعين الشك لأعمالهم التـي تتملك الثقافات الأجنبية.
وفي داخل الصف لايمكن خدمة هذا المخطط إلا عن طريق تفحص الصفات الجمالية للنص المترجم وتبين وجود الاختلاف على مستوى اللغة والأسلوب واللهجة والخطاب. فتدريس مسألة الترجمة يتطلب اهتماماً خاصاً في خواص الأدب وتبين أن هذه الخواص مرتبطة دائماً بزمن تاريخي معين وأنها مشبعة بقيم الفئات الثقافية التـي أنتجت ومن أجلها أنتجت هذه الترجمات. وهنا يجب القول إن احترام الاختلافات الثقافية يتطلب عمليتين: أولاهما إدراك الإضافات الدقيقة العضوية التـي أدخلت في "التيمات" الأجنبية وبكلمة أخرى ما يوجد في الترجمة مما هو غير مترجم ولكنه يغير دون قصد المعاني المختلفة في النص الأصلي، والعملية الثانية هي السماح لهذه التيمات والمعاني أن تجعل بعضاً من القيم الثقافية العضوية غريبة وبالتالي تكشف عن ترتيباتها الطبقية وما يقع منها في الهامش أو في المتن.
يجب ألا تفحص طرائق تدريس الأدب المترجم الاختلافات بين النص الأجنبي وترجمته فحسب ولكن عليها فحص هذه الاختلافات داخل الترجمة نفسها. ويمكن القيام بهذه العملية عن طريق التركيز على ما وصفه "جان جاك ليسرسل" بأنه "المتبقي" أي تاثيرات نصية تزيد على الاستعمالات الشفافة للغة تهدف للتواصل والمرجعية، ومن الممكن أن تعرقل هذا التواصل بدرجات مختلفة من التأثير. فالمتبقي يتألف من الأشكال اللغوية المختلفة قديمها وحديثها التـي يستخدمها متكلم اللغة عندما يتواصل مع الآخرين والتي ستعطي بسبب استعمالاتها السابقة أكثر مما يريد، كما تحدث تغييرات في المعنى المقصود. وفي حالة الترجمة يشتمل المتبقي على التأثيرات النصية التـي تعمل في اللغة الهدف فقط وهي أشكال لغوية محلية تضاف إلى النص الأجنبي أثناء عملية الترجمة وتنحو منحى مغايراً لما يريده المترجم في محاولته لإيصال النص. يقول ليسرسل:
على الأغلب سيستعمل نص مكتوب بالإنجليزية لهجات مختلفة وأنواعاً مختلفة من مستويات اللغة وأساليبها إن كان ذلك عن قصد أو دونه وسيشير إلى لحظات تاريخية معينة للغة وأهلها تقع في مفردات اللغة أو نحوها، فتعدد المستويات والإشارات التاريخية تسيطر في أقل النصوص تعقيداً. ورغم ذلك فإن النص مكتوب بالإنجليزية وفي لغة واحدة زمنياً 205.
ستظهر ترجمة باللغة الإنجليزية عديداً من التأثيرات الخاصة بالإنجليزية التـي تبقى غير معروفة عندما نقرأ الترجمة على أنها محاولة تواصل شفافة أو على أنها لا تختلف عن النص الأجنبي. وتدريس مسألة الترجمة يعني تدريس المتبقي في النص المترجم وإبراز الأشكال المختلفة في مراحلها التاريخية التـي تزعزع وحدة النص وتعتم على شفافيته المفترضة.
ولإعطاء مثال عن طرائق التدريس هذه لنأخذ الترجمة التـي قام بها "تريفور سوندرز" مؤخراً لحوار أفلاطون أيون وهو نص قد يظهر ضمن ما يقرر في مواد مختلفة وعلى مستويات مختلفة للطلبة الجامعيين وفي الدراسات العليا وفي أقسام جامعية مختلفة وفي مناهج مختلفة: الإنجليزية والأدب المقارن والفلسفة والإنسانيات. وفي هذا الحوار القصير يقول "سقراط" إن الأغنية التـي يؤديها أيون تفسر شعر هومر في نفس الطريقة التـي كتب فيها هومر هذا الشعر عن طريق الهام الهي وليس عن طريق المعرفة. وعندما تبدأ نقط الجدال تظهر من خلال أسئلة سقراط المعتادة التـي تحوي الكثير من السخرية من موقف أيون: فيصوره هومر على أنه مختال عديم التفكير وغير قادر أحياناً على تتبع منطق سقراط. فإن أتينا إلى النص الإنجليزي لنبحث عن المتبقي فيظهر لنا أن السخرية الموجودة في الأصل ترتبط بمجموعة من الألفاظ الشائعة (وأكثرها بريطانية) في خطاب ترجماني يطغى على أغلبه التمسك باللهجة الرسمية. والألفاظ الشائعة تساند سخرية النص لأنها تضيف وعياً طبقياً على صلب الحوار.
فيعطي "أيون" عدداً من الألفاظ الشائعة أحدها يأتي قرب النهاية في نقطة يتكلم فيها بشكل مليء بالخيلاء وعدم التفكير:
سقراط: إذاً فهل أنت كمغني "للرابسود" أفضل الإغريقيين؟
ايون: بجدارة كبيرة ياسقراط. (سوندرز 64)
والتعبير البريطاني "بجدارة كبيرة" يعني "إلى حد كبير" (قاموس إكسفورد البريطاني) يترجم polouge وهي تعبير إغريقي يمكن أن يترجم في نص يبقي اللهجة الرسمية بـ "كذلك تماماً" (بيرنت Ib 54). ولا تبدو الألفاظ الشعبية في حصيلة مفردات ايون الخاصة فحسب ولكن في تراكيب جمله أيضاً. في البداية يشير سقراط إلى التشابه بين الإغريقين في محاولة ليظهر أن حماس أيون لهومر وحده غير مبني على أي معرفة بشعره.
سقراط: وماذا عن الشعراء الآخرين؟ ألا يتحدثون عن هذه المواضع أيضاً؟
أيون : نعم، لكن ياسقراط، لم يكتبوا كما كتب هومر 51.
وبالمقارنة مع النص الأغريقي (onch bomois pepoiokasi kai Omeros) تتبين لنا يد المترجم لأن العبارة لا تحتوي على شيء يشابه استعمال أيون لكلمة "مثل" "يشابه" (برينت Ib 53). اختار المترجم عن عمد النحو العامي عوضاً عن الترجمة باللغة الإنجليزية الفصحى في عبارة "مثل" ليس بالطريقة التـي كتب فيها هومر الشعر أو بتعبير بنجامين جويت الأكثر تحرراً "ليس بطريقة هومر" (جويت 499). باستعمال كلمة "مثل" كأداة وصل شيء يمكن الاختلاف عليه وهكذا فاستعمالها في الترجمة يجعلها تبدو مناسبة لنوع النص الإغريقي أي الحوار. حصيلة الأمر أن ايون يأخذ رغم هذا صفة من يتكلم لغة إنجليزية بمستوى غير عال وبالتالي يوحي بأنه تلقى تعليماً قليلاً هذا إذا لم ينظر إليه على أنه يأتي من مرتبة اجتماعية متدنية. وهذا الاستعمال كما يقول قاموس أكسفورد الإنجليزي الذي يستشهد به من قبل أولئك الذين يكتبون كتب الأسلوب التـي تفرض آراءها ككتاب فاولر Fowler: "هذا الاستعمال للكلمة شيء مرفوض بشكل عام لأنه عامي ويدل على عدم الاكتراث". (فاولر 334.335).
في النص المترجم تصبح العامية علامة على التخلف العقلي لأيون. ويستخدم سقراط مثل هذه التعابير عندما يريد أن يكون ساخراً، وفي الفصل عندما يتحدث إلى أيون على أنه أدنى منه معرفة ما دحاً كبرياء المغني بلغة توحي بأن كبرياء ذاك لايقوم على أي أساس. وتكفي عادة عبارة قصيرة لتظهر السخرية. ونرى أن المترجم يجعل سقراط يقول: "في كلمات قليلة" ليترجم en kepbalaioi "الخلاصة" و "ياعزيزي الشاب" ترجمة ophile kepbale وهي تحية تعني "صديقي العزيز" لكن عن طريق كناية تشير إلى الرأس kepbale، وهذه غمزة واضحة في النص الإغريقي لعدم فهم أيون (برينت e 531، d). وبالإضافة إلى هذه الانتقادات توجد قطعة في بداية الحوار تبدو فيها اللغة الشعبية البريطانية بوضوح:
يجب أن اعترض يا أيون إنني ظالماً حسدت المغنين شاعريتهم التـي تخولهم بحق واحقية أن يلبسوا ملابس فاخرة وأن يظهروا بأفضل شكل وكم تحسدون أنكم تستطيعون أن تغرقوا أنفسكم كلية في قراءة الشعراء العظام وخاصة هومر وهو أفضلهم وأكثرهم إلهاماً وأن تستطيعوا أن تفهموا أفكاره وليس فقط كلماته! (ساندرز 49 وأضيفت الخطوط من المؤلف)
ولا يمكن لأي من الكلمات التـي وضع تحتها خط أن تكون بعيدة عن النص الأصلي لكي تعتبر الترجمة باطلة رغم أن ما يقابلها في النص الإغريقي شيء يمكن اعتباره لغة دارجة: فالعبارة to get up مثلاً تعبير عن ekmanthanein أو "ليعرف بصورة كاملة، ليحفظ عن ظهر قلب" (برينت c530) ورغم ذلك فحاصل تأثير اختيارات المترجم أن تعطي نكهة بريطانية غير رسمية خاصة للنص. ففكرة أن سقراط يتحدث بعلِو لأيون في هذه القطعة تبدو واضحة على مدار الحوار حيث إن سقراط يتحدث مستعملاً لهجات أخرى: ففي الترجمة وكما في النص الإغريقي لكن مفرداته تحتوي على تعابير تجريدية فلسفية وهذه تحير أيون باستمرار:
سقراط: واضح للكل إنك لا تستطيع الكلام عن هومر بمهارة ومعرفة (techne kai epistem) لأنك إن كنت ستفعل ذلك بسبب مهارة تملكها لاستطعت الكلام عن كل الشعراء الآخرين أيضاً فيجب أن ترى كما أفترض أنه يوجد فن شعري شامل (olon) أليس كذلك؟
أيون: نعم هو كذلك؟
سقراط: فإذاً فأي مهارة تدرسها بصورة عامة ستبقى صالحة للاستعمال والتحري (skepseos tropostes) وتنطبق على كل واحد منهم. هل تريد أن تسمعني اشرح النقطة التـي أقولها ياأيون؟
أيون: نعم واحلف بالإله زيوس ياسقراط أني أود أن تفعل ذلك.
(سوندرز 52، 53 وبرنيت d532، c)
وهكذا تملي التعبيرات العامة في الترجمة نظاماً طبقياً داخل التيمات الطبقية التـي تتخلل النص الإغريقي. وأكثر هذه النظم الطبقية بروزاً هي أيستملوجية المنحى: فسقراط يريد أن يوضح أن أيون لا يملك المهارة أو المعرفة التطبيقية والتفسيرية كما أنه لا يفهم المفاهيم الفلسفية التـي تناقش: فكرة أن المعرفة نظم وخصوصية تعطي القدرة للأداء والتقييم لكل الممارسات ضمن حقل خاص أو نظام معرفي. ولذا فإن سقراط يقول إن أيون يجب أن يتمكن من أداء كل الشعراء وتفسيرهم بنفس درجة النجاح وأن لا تقتصر قدرته على أداء وتفسير هومر الذي يعتبره الأفضل رغم أنه لا يوضح حكمه هذا وبوضع سقراط في مكان يمتاز عن أيون بحيث تكون فيه هذه النقطة مفهومة أو بديهية فإن النص الإغريقي يعطي الفلسفة مكاناً أعلى من الأداء كما يعطي المعرفة النظرية مكاناً يفوق ذاك الذي تحتله المعرفة العملية.
وهذه الطبقية الابستمولوجية تحمل في طياتها أبعاداً سياسية، ففي قطعتين تذكر المدينةالتي أتى منها أيون على أنها ايفيسيوس وهي ما يصفها على أنها "محكومة" (archetai) من قبلكم يا أهل أثينا. "كما أن هناك عدة إشارات في النص تضع حديثه مع سقراط في فترة تسبق ثورة ايفيسيوس على هيمنة أثينا (مور، ميغز) ولهذا السبب فإن الحوار يبدو وكأنه يعطي إيضاحاً قومياً لموقف أثينا (في شخص سقراط) وكأنه يفوق فكرياً موقف المستعمرين (بفتح الميم الثانية) وأن جهل أيون يعطي شرعية لموقف أثينا الإمبريالي: وكأن الايفيجنيز يين الأغبياء يحتاجون ملوك الفلسفة الأفلاطونيون من أثينا لإرشادهم. وفي الترجمة ينتقل هذا العبء الفكري إلى الإنجليزية ويصبـح معقـداً أكثر بسبب اللهجات المختلفة: إن الشخص الذي يتكلم اللهجة الرسمية والعارف للتجريد الفلسفي يبدو وكأنه أرفع قيمة من متكلم اللهجة العامية الذي لا يملك معرفة فلسفية رغم كونه مؤدياً ناجحاً.
فتعليم البقية يمكن أن يوضح كلاً من النص الإغريقي والترجمة الإنجليزية. وتكون الاختلافات اللهجية، وخاصة عندما تستخدم كوسيلة للسخرية، مفيدة في جلب الانتباه للطبقية الثقافية والسياسية التـي بينت عليها المقولة الأفلاطونية وبذلك تعود على خصوصيتها التاريخية. ولكن فيما يعود إلى اللهجات التـي تشكل بقايا خاصة باللغة الإنجليزية فإنها تؤسس مرجعية وطنية معاصرة وتكشف عن القيم الطبقية في الحضارة الأنجلو، أمريكية في اللغة الإنجليزية. فتعليم البقية يمكن أن يجعل الطلاب يدركون أن الترجمة تعطي تفسيراً ولكن في نفس الوقت فإن هذا التفسير يمكن أن يستخدم لدعم أو التشكيك بما يقدمه سقراط وأيون في النص الأغريقي. فلهجة أيون على سبيل المثال يمكن أن تبدو صحيحة حيث إنها تكشف عن تفكيره البطيء وتعليمه المحدود أو يمكن أن تبدو موصومة تكشف عن عنهجية ثقافية ناتجة عن سيطرة طبقية. وحين يفكر الطلاب في مثل هذه الخيارات يمكن أن يتعلموا محدودية تفسيراتهم. فالفرق إن كانوا يفسرون الألفاظ العامية على انها تأكيد يساند أو يوضح الرأي الأفلاطوني لأن تفسيرهم يعتمد ليس فقط على حيثيات النص أو معطياته التاريخية (مثلاً جواب موثق حول ما إذا كان أيون يملك بالحق شيئاً من المعرفة) ولكن أيضاً عن القيم الحضارية والسياسية التـي يجلبونها إلى الترجمة.
التمحيص في البقية عن قرب يعطي طريقة فعالة لتعليم مشكلة الترجمة. ففي الصف يمكن أن يحصل هذا عن طريق نصوص قصيدة مختارة بدقة. ومن الممكن أن لا تحتاج مقارنة طويلة بين النصوص وترجماتها رغم أن مثل هذه المقارنة ستعطي الكثير من المعلومات. فالبقية مفيدة تعليمياً لأنها يمكن أن ترى في الترجمة نفسها عبر التأثيرات المختلفة للنص الذي ترى في اللغة الهدف. كما أنها تجعل قراءة دقيقة للترجمات كترجمات شيئاً ممكناً، كنصوص تتواصل. وفي الوقت نفسه تملي على النص الأصلي قيماً جديدة من اللغة الهدف. وهكذا فإن هذه القراءة عملية تاريخية. فالبقية تبدو مفهومة في الترجمة فقط وذلك في حالة واحدة وهي عندما تكون خطابات البقية المتعددة، ونوعياتها وأساليبها موضوعة في أزمن معينة من الثقافة الهدف. وكما لاحظ ليسرسل فإن البقية هي تأكيد للأشكال اللغوية الأولى في الاستعمالات اللغوية الحالية، "مكان التاريخي ضمن المعاصر. مكان تأكيد نقاط التلاقي للماضي والحاضر اللغوي 215.
فصفات البقية الزمنية تتجلى بصورة درامية عندما نقارن عدة ترجمات جنياً إلى جنب. فالنسخ المختلفة تجلب إلى الضوء النتائج المختلفة الممكنة في أوقات ثقافية مختلفة جاعلة من هذه التأثيرات مادة للدراسة لأنها أشكال مختلفة للتلقي مرتبطة بجماعات ثقافية مختلفة فأخذ عينات تاريخية يمكن أن يكون مفيداً لتوضيح ترجمة أخذت مكانة مرموقة في حضارة اللغة الهدف: فعندما تمثل ترجمة معينة نصاُ اجنبياً لمتلقين من خلفيات مختلفة وعندما تأخذ هذه الترجمة مكان ذلك النص للقراء يوضح تدريس البقية أن مكانة هذه الترجمة الثقافية مبنية لا على دقتها العالية أو أسلوبها الناجح فقط، بل على تناغمها مع قيم خاصة في الحضارة الهدف.
فلنأخذ ترجمة ريتشموند لا تيمور Richmond Lattimore للإلياذة (1951) وهي الترجمة الإكثر انتشاراً في اللغة الإنكليزية فهي "الترجمة المفضلة لأكثر من ثلاثة أرباع المجيبين على إحصائية MLA للمدرسين في أقسام اللغة الإنجليزية والكلاسيكية والأدب المقارن والتاريخ والفلسفة والآثار (يرسيان X، 4) فنسخة لاتيمر قريبة جداً من النص الإغريقي وملتزمة حتـى بالبيت الشعري الهومري لكنها ليست بالقرب بالمكان الذي يجعلها تحذف البقية التـي تربط النص الإنجليزي بوقت حضاري معين رغم رقي ودقة ترجمتها وسهولة قراءتها من قبل متكلمي اللغة الإنجليزية المعاصرين.
فكر في الأبيات التـي تأتي في مشهد هام في الكتاب الأول. عندما يسلم أكيليس عشيقته الطروادية بريسيس لقائد القوات الإغريقية اغمامنون:
وهكذا تكلم، واطاع باتروكلوس مرافقة المحبوب
قاد من الكوخ بريسيس ذات الوجنات الجميلة وأعطاها
لتأخذ بعيداً ومشيا عائدين بجانب سفن الأثينيين،
وذهبت المرأة معهم رغم رفضها لما يحدث. لكن اكيليس
ذهب وهو يبكي وجلس في حزن بعيداً عن رفاقه
على شاطىء البحر الرمادي ناظراً إلى الماء الذي لا نهاية له
ونادى مراراً وهو يمد يدية لأمه (لاتيمر 68)
وفي ترجمة لاتيمر خطاب ميني على نوعية بسيطة جداً من اللهجة الرسمية وهي ماسماها "اللغة الإنجليزية العادية في عصرنا" (55). وكما أشار هو نفسه فقد اتبع أحكام ماثيو أرنولد التـي أطلقها في عند ترجمة هومر (1860) "يجب على من يترجم هومر أن يبقى في ذهنه أربع خصال للمؤلف: إنه سريع بسيط ومباشر في الفكر وفي التعبير، مباشر وعادي في مادته ونبيل في موقفه (55). هذه قراءة مدروسة للنص الإغريقي يقوم بها طبقاً لما يقوله أرنولد "أولئك الذين يعرفون الإغريقية وفي الوقت نفسه يتذوقون الشعر: ورغم أنه كان يفكر عند قوله هذا بدارسين للكلاسيكية أمثال جويت فإن هذه القراءة سادت حتـى وقتنا وأثرت في ترجمة روبرت فيغل Robert Fagle للإلياذة بالإضافة إلى ترجمة لاتيمر (أرنولد 99، فيغل ix وفينوتي 139، 145). ورغم أن لا تيمرد قد كتب ترجمة أكاديمية فقد شعر بأنه بحاجة لتعديل مطلب أرنولد بـ "لهجة إنجليزية شعرية" لأنه في عام 1951 لا توجد لدينا لهجة شعرية وأي استعمال شعري لتعابير قديمة "أي لغة سبنسر أو نسخة الملك جيمس من العهد القديم". بدت غير مناسبة للهجة هومر البسطة (55).
لكن وكما توضح الفقرة أعلاه فيمكن أن نتلمس شيئاً من العودة إلى تعابير قديمة في كلام لاتيمر ويوجد بعض من هذا في المفردات (beloved المحبوبة) (قاد led forth) وبعضها نحوية (استعمال تعبير معكوس نحوياً weeping sweet وبعضها في النظم (بيت من ست تفعيلات حرة يقلد فيها بيت هومر الشعري ذا التفعيلات الست وهذا ما أوصى به أرنولد أيضاً) (انظر دافنبورت Devenport الذي يفسر ترجمة لاتيمر الأوديسة بطريقة مماثلة). وهذه التعابير القديمة تعطي ترجمة لاتيمر صفاتها الشعرية حيث يضم معها أسماء لاتينية وإغريقية بالإضافة إلى ترجمة شبه حرفية للنعوت (ذات الوجنات الجميلة) ليرفع من مستوى النغمة ليجعل فيها شيئاً من الرسمية ويجعل النظم يبدو "نبيلاً" أو راقياً. ولكن لاتيمر يختلف عن أرنولد بشكل واضح في إبقاء هذه الصفات غير ملفتة للنظر لقارئ الإنجليزية الذي يعيش بين منتصف القرن العشرين وأواخره وجامحاً للبقية عن طريق التقليل من التعابير القديمة. ورغم أن نص لاتيمر مقسم إلى أبيات شعرية إلا أن نسخته مرصوفة في "لغة النثر المعاصرة" أي لغة التواصل والإحالة والواقعية. لغة مفهومة مباشرة وتبدو شفافة تظهر المعنى والواقع والنص الأجنبي. وفي طريقة ناجحة فقد جدد نص لاتيمر للإلياذة النص الأكاديمي وقراءة أرنولد جاعلاً منه نصاً طبيعياً أو صحيحاً عن طريق الاعتماد على الإنحليزية الواسعة الانتشار والمستعملة منذ أربعينات القرن العشرين.
وهكذا فإن لاتيمر لم يكن يقلل من الخلافات اللغوية والثقافية التـي فصلت قراءة عن النص الإغريقي لكنه كان يعيد كتابة النص حسب القيم السائدة في وطنه. فيمكننا أن نجعل ترجمة تبدو غير مألوفة عن طريق مقارنتها مع ترجمتين آخريين اكتسبتا مركزاً حضارياً رسمياً في وقت سابق من التاريخ الأدبي وهما ترجمة جورج تشابمن George Chapman (1608) وأليكساندر بوب Alexander Pope (1715). ويوضح البعد التاريخي البقية في هذه الترجمات أي القيم الحضارية الإنجليزية التـي ينسبونها إلى النص الإغريقي بالإضافة إلى هذا ستوجه الانتباه إلى الاختلاف الكبيرة مع نص لايتمر:
وبعد هذا القول، قام باتروكلوس بالطقوس
قام صديقه بأمر وإحضار مرسبيس من خيمتها
وأعطاها إلى المنادين، وإلى سفن الأشيف ذهبوا
كادت هي، الحزينة، ألا تذهب بسبب فجيعتها وتخلي حبيبها عن كل الأصدقاء
وبكى في غضب. وإلى شاطئ البحر القديم مضى
وحيداً وألقى على البحر البنفسجي نظرة
بعيونه الدامعة ورفع بيدية إلى السماء بهذا الدعاء الحزين
الذي وجهه إلى أمه: (تشابمن 33، 34)
أحضر باتروكلوس الجميلة غير راضية
أما هي حزنها الناعم بفكر متأمل
مضت صامتة بينما أمسك المنادي بيديها
نظرت إلى الوراء كثيراً وهي تتحرك ببطء على الطريق
لكن لم يحمل اكيليس العنيف حزنه بنفس الطريقة
فذهب إلى الشاطئ بحزن
وتوقف عند حافة البحر العميق الصاخب
ذاك البحر قريبه الذي نبعت منه أمه
هناك في خضم دموع الغضب والسخط
بكى بصوت عال إلى البحر الهائج (بوب 109، 110)
فإن ركزنا قراءاتنا على الفروق في المفردات (دون النظر للخصائص الأخرى لهذه الفقرات الغنية) نرى ترجمات تشابمن وبوب تظهر قلقاً واضحاً حول الأشياء المتعلقة بجنس المتكلم في قصيدة هومر. لكلا المترجمين كانت مسألة بكاء أكيليس شيئاً صعباً للتفسير في المفاهيم الموجودة عن الرجولة في ذلك الوقت فكان عليها بالإضافة إلى تعديل النص الإغريقي أن يذيلا ترجماتهما بملاحظات تفسيرية. فغير تشابمان البكاء إلى "عيون مبتلة" وجعل هذا التعبير طبيعياً أكثر عن طريق إضافة "أصدقاء" الذين "بكوا من الغضب" على ذهاب بريسيس. أما "بوب" فأعاد تفسير "الدموع" بإلحاقها "بالغضب والسخط". وملاحظة تشابمن على المقطع تشكل موقفاً متزامناً في عكسه للاتجاه السائد في حضارة عصر النهضة مقارناً البطل غير المؤمن بـ "منقذنا الكامل والقادر على كل شيء والذي بكى من أجل لازورس" لكنها تضع مشكلة جنس المتكلم بشكل واضح يعكس متكلماً ذاكراً:
"من يستطيع أن يقول إنه لا توجد دموع للرجولة وكرم ودموع نساء وجبناء (تشابمن 44) وأضفى بوب عقلانية لتعديلاته الذكرية بقوله إنه "لا يوجد ضعف في الأبطال الذين يبكون" لأن "المزاج العظيم والمليء بالعنفوان يبقى خاضعاً أكثر لدموع الغضب والرفض. "(بوب 109 هامش 458). وهكذا ينظر كلا المترجمين إلى العواطف الهياجة على أنها انثوية فغير كلاهما النص الإغريقي ليبديا بريسيس ضعيفة من الناحية العاطفية ("ألا تذهب بسبب فجيعتها" "حزنها الناعم") على عكس القوة الذكرية لغضب أكيليس؛ وقد تمادى بوب إلى حد أنه جعل موقفها السلبي أكثر سلبية وخضوعاً عن طريق إضافة قكرة أنها كانت قد أصبحت "أكثر من صامتة." وفي الوقت نفسه حذف كلا المترجمين الكلمة الإغريقية philo "المحبوبة" عند معالجتها للعلاقة بين أكيليس وباتروكلوس وبذلك حذفا المتن الذي بنيت عليه النظريات عن العلاقة الشاذة بينهما وهو شيء ظهر في الأدب الأثيني خلال القرن الخامس قبل الميلاد (102، 104، ويليلمز Williams).
وهكذا فإن هذه النسخ السابقة يمكن أن تتحدى الموقع الحضاري لنسخة لاتيمور عن طريق مساءلة اختياراته موضحين أن نسخته مليئة أيضاً بخيارات مبنية على جنس المتكلم رغم أن لغته الإنجليزية تبدو شفافة. ويثير الاهتمام أن الابتعاد الطفيف عن اللهجة الرسمية توجد في أماكن من النص يتحول فيها أكيليس عن المنظور الأبوي للذكورة التـي طغت في وقت لاتيمور الحضاري كما تغيرت بالنسبة لنسخ تشابمن وبوب. فالتعابير التـي ترمز لوقت سابق "المحبوب" "ذهب وهو يبكي"، يمكن لها أن تعطي تأثيراً يشعر فيه القارئ الحديث بالغرابة وفي الوقت نفسه تحيط الشفافية السطحية لترجمة لاتمير بالضبابية: لأن هذه التعابير تسمح بوجود علاقة شاذة بين أكيليس وباتروكولس بالإضافة إلى احتمال وجود عاطفية شديدة عند البطل العسكري، وكتعابير توحي بقدمها فإنها تضع هذه القيم الحضارية في الماضي. لكن هذه التأثيرات تبقى ممكنة في النص المترجم. فهي لا يمكن أن ترى إلا عن طريق وضع هذه النسخة جانب النسخ الأخرى فتبدي البقية في نص لاتيمر لأن بساطة خطابه صممت لكي لا تجلب الاهتمام لأمور خفية ولتحرك بالحكاية ولتحيط كل مشهد بنغمة نبيلة. وهكذا فإن التعابير المتقادمة تنحو لأن تغمر بوحدانية سياق اللهجة الرسمية دافعة بالاهتمام بعيداً عن البقية في الإنجليزية لتيمات النص الإغريقي وساترة الطريقة التـي تقدم فيها الترجمة أكيليس أو بربسيس وبالتالي أي تفسير لهما.
فإن كانت البقية مفيدة في تدريس مشكلات الترجمة فإنها تؤسس أطراً جديدة لاختيار ترجمة دون أخرى. فنحن نعرف في أغلب الحالات أن النصوص المترجمة تستعمل في مناهج المواد التدريسية لأن النص الأجنبي في شكله أو موضعه يعتبر ذا علاقة بموضوع مادة أو منهج معين. وفي استكشافات آراء المدرسين التـي نشرت في دوريات MLA حول تدريس الأدب العالمي يبدو أن ما يفعله هؤلاء المدرسون عملياً هو اختيار ترجمة ما بعد مقارنتها مع النص الأصلي دون أخذ الاعتبار ثمن أو سهولة الحصول على هذه النسخ. الدقة تبقى الأساس الذي يستخدم باستمرار في الاختيار وإن كانت أطر الدقة تخضع للتغيرات. لكن حينما يريد المدرس أن يعلم مشكلات الترجمة فتشارك الدقة أسس أخرى تأخذ بعين الاعتبار الأهمية الحضارية والدور الاجتماعي لترجمة معيننة في موقعها التاريخي والوقت الحاضر. فإن كل نص مترجم، مهما كانت دقة ترجمته، يشكل تفسيراً لنص أجنبي فعندها يصبح اختيار ترجمة مناسبة مسألة اختيار تفسير معين، نص يعطي معالجة متمكنة من المسائل التـي تثيرها الترجمة وبنفس الوقت ترجمة يمكن أن تتساير بشكل مثمر مع المناهج النقدية التـي تطبق على نصوص أخرى في المادة الدراسية. يعني اختيار ترجمة معينة اختيار نص غني بالبقية، نص مليء بالأفكار حول خطاب الترجمة، على سبيل المثال أو خطاب جعل الترجمة تحظى بمكان ثقة أو مكان هامشي في حضارة اللغة الهدف. وقد يرغب المدرس في أن يضيف ترجمة معاصرة (أو جزءاً من هذه الترجمة) ليحفز الطلاب على فحص القيم الحضارية المعاصرة أو بكلمة أخرى على النقد الذاتي.
وخلاصة الأمر، إن تدريس البقية تعطي الطلاب القدرة على رؤية الدور الذي تلعبه الترجمة في تشكيل الهويات الحضارية. وبالطبع تهدف عملية التدريس إلى إعطاء الطلاب مواقفهم الخاصة وإمدادهم بالمعرفة وتهيئتهم لوظائف اجتماعية. وهذا واضح بالنسبة لمواد تدرس الأشكال والقيم الحضارية والتي تعتمد بشكل واسع على الترجمات. ولأن إيجاد موضوع البحث في الصفوف الدراسية يعني إيجاد مواطنين اجتماعيين فإن مادة الأدب تصبح قادرة على إيجاد رأسمال حضاري كبير لا يمكن للجميع الحصول عليه لكنه قادر على إعطاء هؤلاء الأشخاص قدرة اجتماعية "فالمنهج الأدبي" كما يقول جيلوري:
يشكل رأس مال من ناحيتين: أولاً إنه رأس مال لغوي يمكن للإنسان عن طريقه الحصول على مؤهلات اجتماعية وبالتالي فهو كلام ذو قيمة يعرف باسم آخر "الإنجليزية الرسمية"، ثانياً: إنه رأس مال رمزي أي نوع من رأس المال المعرفي الذي يمكن عن طريق عرضه عند الطلب أن يعطي بالتالي لمن يحصل عليه الفوائد الحضارية والمادية للإنسان المثقف ثقافة جيدة (ix).
وبما أن اللغة والأدب وسيلتان ضروريتان لتداول رأس المال الحضاري فتكون الترجمة وسيلة استراتيجية يمكن عن طريقها دراسة الحضارات التـي تشكل الهوية وخاصة علاقتها مع الحضارات الأخرى.
وتجري اثنتان من هذه العمليات في الوقت نفسه في الترجمة. فالاختلاف الحضاري للنص الأجنبي حين ترجمته يقدم دائماً حسب قيم اللغة الهدف التـي تشكل الهوية الحضارية لكل من البلاد الأجنبية والقارئ المحلي. فبوب على سبيل المثال خلق هومرا نبيلاً من طراز عصر التنوير للذكور الاستقراطيين البرجوازيين "الذين يملكون تذوقاً للشعر وعلماً متمكنناً (بوب 23 ويليامز). أما ترجمة لاتيمر لهومر فكانت قد وضعت للطلاب الجامعيين في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وضمت الدراسة الأكاديمية للنص الإغريقي مع اللهجة الرسمية الإنجليزية وبذلك أكدت الفروق الحضارية والفروق الطبقية وفي الوقت نفسه علمت حضارة أرستقراطية قديمة متميزة بذكوريتها المقاتلة. فدراسة الترجمة يمكن أن تجعل من الطلاب مطلعين بشكل أفضل على الاهتمامات المحلية التـي تخضع الترجمة قارئها والنص الأجنبي لها. فطرق تعليم الأدب المترجم، تجعل احترام الاختلافات الحضارية تمشي يدا بيد مع تعلم الاختلافات التـي تشكل الهوية الحضارية للقارئ المحلي. ففي الوقت الذي تكون فيه هيمنة اللغة الإنجليزية عالمياً تدعو إلى حب نفس حضاري وعدم رغبة العمل من قبل القراء الأمريكيين والبريطانيين، فإن الترجمة يمكن أن تضيء التعددية التـي تتصف بها كل حضارة.
فإن كان للترجمة أن تخدم بهذه الطريقة فلا بد أن تتغير الدراسات العليا في الإنجليزية وأن يعاد النظر فيها لكسر الانعزالية (وربما كما قال بعضهم الكراهية للغريب) التـي تطغى على الدراسات الأدبية العليا. فقد دلت الأيام التـي كانت فيها دراسات اللغات الأجنبية متطلباً للدكتوراه لدعم البحث في الأدب البريطاني والأمريكي كان ذاك على مستوى الأطروحة أو ما بعدها ففي كثير من برامج الدراسات العليا في الإنجليزية خفضت متطلبات اللغات الأجنبية ولذلك فإن دراسة اللغات الأجنبية قلما تتعدى الأساسيات التـي تسمح بترجمة قطع قصيرة إلى لغة إنجليزية مقبولة. فالحاصلون الجدد على الدكتوراه لا يملكون القدرة على التفكير بالمشاكل الحضارية والسياسية التـي تنمو بسبب اعتمادهم على الترجمات في بحوثهم وتدريسهم.
لكن الحل في رأيي لا يكمن في العودة إلى المتطلبات التقليدية التـي تكمن في مطالبة الطالب بالقدرة المتمكنة على قراءة لغتين أجنبيتين أو أكثر. فالمعرفة التـي يحصل عليها الطالب من هذه المتطلبات الصارمة ستكون ذات فائدة قليلة في مناهج الدرسات العليا التـي ترتكز على آداب اللغة الإنجليزية، ناهيك عن التأخير في الحصول على الدرجة العلمية وحافزاً للطلاب على البحث عن طرق لاختصار طريق النجاح في امتحانات اللغة، فالطريق المثمر والأفضل هو أن يطلب من الطالب معرفة ممتازة في لغة أجنبية واحدة (عبر فحص يؤكد القدرة على قراءة النصوص بفهم) بالإضافة إلى مادة الإنجليزية تنظر في مشاكل الفروق اللغوية والحضارية. فهذه هي المشكلة التـي يمكن أن ينظر بها في دراسة تاريخية لنظرية الترجمة، والترجمة نفسها حيث يكون التركيز على الترجمة إلى الإنكليزية وعلى تعلم كيفية قراءة الترجمات باللغة الإنجليزية، فالمتطلبان اللذان اطرحهما يمكن أن يحثا طلاب الدكتوراه على القيام بالبحث في لغة أجنبية وأن يدخلوا في الجدل النقدي حول تكوين الهويات الحضارية وبالإضافة إلى ذلك لمواجهة مسألة الترجمة عندما تدرس النصوص المترجمة فيمكن لكل الطلاب في كافة المستويات أن يتعلموا عن طريق وضع الترجمة ضمن مناهج التعليم.